-1-
فيروز تبدأ عقدها العاشر! كل سنة ونحن جميعا بخير.
تسعون عاما من الحضور المبهج والأسطوري في آن واحد. فأما عن البهجة والطرب، فتُسأل عنها ستةُ عقود من الغناء الرائع (منذ الخمسينات، وحتى أحدث تسجيلاتها في أبريل 2015، والذي سنستمع له في نهاية هذا المقال)، مما يجعل مدة نشاط فيروز الفني هي الأطول بين المطربين العرب الكبار في القرن العشرين، لا يضاهيها إلا موسيقارنا الأعظم محمد عبد الوهاب الذي غنى لمدة 7 عقود (من "أتيت فالفيتها ساهرة" سنة 1921 إلى "الدعاء الأخير" عام 1991).
وأما عن الحضور الأسطوري فتكرسه الندرة الشديدة للقاءاتها الإعلامية، والطريقة المستخدمة عادة في تصوير فيروز وتصميم أزيائها (خاصة في العقود الأربعة الأخيرة)، والتي تعطي صورتها حضورا "مريميا" (نسبة للعذراء)، فيزيد حضورها غموضاً وتترسخ أسطورتُها.
ثم إن فيروز مثلت نقطة التمركز في العالم الأسطوري الفريد الذي نسجه الأخوان رحباني، في إطار هاجسهما الدائم ببناء "أغنية لبنانية" مستقلة عن التقليد المصري المسيطر على الغناء العربي في القرن العشرين. كيف؟
لتلبية هذا الهاجس الملح، اختصر الرحابنة الغناء اللبناني في منطقة جبل لبنان، دون مناطق الساحل والجنوب والبقاع، التي تمتزج أغانيها بتقاليد "غير لبنانية" بحكم القرب الجغرافي مع سورية في حالة سهل البقاع، ومع فلسطين في حالة الجنوب.
-2-
كانت موسيقى "الجبل" إذن، هي الأكثر ملاءمة لرغبة الرحابنة في إنشاء عالم لبناني خالص، يعيش خارج التاريخ، بريئاً لم يلوثه "الغرباء"، ويدور الصراع فيه بين خيرٍ وبراءةٍ طفوليةٍ من ناحية (تمثلها فيروز بصوتها وهالتها الملائكية/المريمية) وشرٍ غير مبررٍ من ناحية أخرى. وكثيرا ما ينتهي هذا الصراع نهايةً سعيدةً، لا تخلو من براءةٍ وسذاجة، كأن يقرر المحتلُ مثلا أن يرحل من تلقاء نفسه وكفى الله المؤمنين القتال، أو أن يكتشف الجميعُ أهميةَ "الحبِ" وخطأ "الكراهيةِ" –هكذا، الحب والكراهية بالمطلق- فيلتم شملُهم!
وبطبيعة الحال، فقد كان هذا العالم البريء والطفولي، يعكس تصورا سياسيا واجتماعيا محافظا ساد في قطاع من "النخبة اللبنانية"، يدور هذا التصور حول "لبنان الرائع الذي أفسده الغرباء وأطماعهم". (أنصح المهتمين بهذه القضية، بالرجوع للدراسة الهامة للمفكر اللبناني فواز طرابلسي عن مسرح فيروز والرحابنة). ولم يكن هناك أصلح من فيروز، بحضورها الأسطوري وصورِها المريمية، لتثبيتِ هذا المعنى.
ما يعنينا هنا، لأغراض هذا المقال، هو أن الوجه الآخر لتثبيت أسطورة "لبنان النقي، قبل أن يفسده الغرباء" تمثل في اختصارِ كثيرٍ من النقادِ والسميعة لقدرات فيروز الغنائية الفذة وإسهامِها الضخم في تاريخ الموسيقى العربية طيلةً عُمرِها المديد –أطاله الله- في قدرتِها على استخدامِ بعض تقنياتِ الغناءِ الغربي في غنائها (على النحو الذي تفعله بعض مقلدات فيروز، ممن يكتفين بألحانها "الغربية" السهلة، ويتجنبن إرثَهَا الضخمَ من الألحانِ الطربيةِ العظيمةِ التي لا تقدر عليها حناجرُهن المحدودة وأصواتُهن الأعجمية!!)
والمشكلةُ هُنا تَكمُن في أن فيروز "الحقيقة لا الأسطورة"، التي ملأت حياتنا طرباً وفناً رائعاً وحضوراً طاغياً في عموم الوطن العربي لم يتسن من قبلها سوى لأم كلثوم، هذه الحقيقة الفيروزية أكثر ثراء بكثير جدا من فيروز الأسطورة (=المطربة التي تستطيع الغناء بتقنيات غربية لألحان "متعولمة"!!).
فيروز الأسطورةُ لها توظيفٌ سياسيٌ وثقافيٌ محافظٌ كما أوضحنا. ولكنها، من الناحية الفنية، تختزلُ بشكلٍ شديدِ الإخلالِ إسهام فيروز الغنائي الذي يمثل ركناً أساسياً من مسيرةِ تطورِ الموسيقى والطربِ العربيِ منذ منتصف القرن العشرين وإلى يومِنا هذا.
لكن ما هو هذا الإسهام الفني الضخم في مجال الموسيقى العربية الطربية، والذي تعجز "الأسطورةُ الشائعة" لفيروز عن الإحاطة به؟ أكتفي هنا بثلاث ملاحظات:
أولا: باستثناءٍ وحيدٍ هو أم كلثوم، لا يوجد مغني آخر من مطربي الصف الأول العرب غطى في أغانيه الخاصة –وليس عبر إعادة غناء أعمالٍ تراثيةٍ- جميعَ القوالبِ الغنائيةِ التقليدية العربية (الدور/الطقطوقة/القصيدة/الموشح/الموال) سوى فيروز.
حتى محمد عبد الوهاب بجلالة قدرِه أسقط قالباً كاملاً من القوالبِ التقليديةِ هو الموشحات، فلم يلحن أو يغني أي موشحات، مكتفيا بإسهامه الفذ في غناء القصائد، لكن هذا حديث آخر.
ثانيا: تنفرد فيروز بكونها استمرت –وهي في قمةِ شهرتِها، وليس فقط في بداياتِها- في إعادة تقديم أغاني قديمة (مثال: أهو ده اللي صار وزوروني كل سنة مرة لسيد درويش ويا جارة الوادي وخايف أقول اللي في قلبي لمحمد عبد الوهاب)، أو في أداء أشكال غنائية مبتكرة تمزج بين الموشحات القديمة وقصائد كتبها ولحنها الأخوان رحباني خصيصاً لفيروز (مثال: عملهم "الأندلسي" الجميل، "أرجعي يا ألف ليلة"الذي يُفتَتَح بأبياتٍ من تأليفِ وتلحينِ الأخوين رحباني، ثم يمزجُ بين ألحانِهما وعددٍ من الموشحاتِ الكلاسيكيةِ من التراثِ الغنائيِ العربيِ في القرنين التاسع عشر والعشرين). كما غنت فيروز عدداً كبيراً من القصائدِ من عيونِ الشعرِ العربي الكلاسيكي (لعنترة بن شداد، وأبي نواس...الخ). وقد مثلت القصائدُ –الملحنة بشكلٍ عربي فصيح، وطربي تماماً- أكثرَ من ثلثِ أغاني فيروز.
ثالثا: حملت فيروز منفردةُ (أستخدم هنا تعبير "منفردة" مجازاُ، باعتبار أن فيروز والرحابنة كانوا كياناُ فنياُ واحداُ في ذلك الوقت) عبءَ استمرارِ الغناءِ المسرحي العربي بعد اندثارِه في مصرَ مع بدايةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ.
وبالإضافة للمسرحياتِ الغنائية الكاملة، التي كانت القناةُ الأساسيةُ لإبداع فيروز لمدة عقدين بالتمامِ والكمالِ (من أولى مسرحياتِها "أيام الحصاد" عام 1957، وحتى آخرها "بترا" عام 1977)، قدمت فيروز أشكالاً شبه مسرحية، كالاسكتشات والصور الغنائية، أجملها في نظري هو العمل الفذ "سهرة الحب" للأخوين رحباني. وفي كل الأعمال المسرحية، كان الطابع الطربي –لا الغربي- هو الغالب (وإن كانت بعض الألحان "غربية الطابع"، خاصة في مسرحيتي ميس الريم ولولو، قد اكتسبت شهرة طاغية).
عن الطربِ الفيروزي الرائع، ولكن الغائب عن كثير من الحديث عنها الذي يختصر فيروز الحقيقية الثرية، إلى فيروز الأسطورة المختزلة (التي تغني غناء غربياً يناسب "الصيغة الفريدة" للبنان الذي لم يلوثه محيطه، والذي هو "قطعة من أوروبا"!!)، سيكون حديثُنا اليوم من خلال 6 نماذج بديعة سنمر عليها بسرعة لاعتبارات المساحة، وقد راعيت في اختيارِها تنوع قوالبها الموسيقية، وكونها أقل شهرة نسبياً، من باب تعريف القراء خاصة في مصر المحروسة بالجوانب الأقل شهرة من الغناء الفيروزي العظيم، وألا تضم هذه النماذج ألحاناً للعبقري العظيم فيلمون وهبي –وهو في رأيي أعظم ملحن لبناني قاطبة، وصاحب أجمل ألحان لفيروز- حيث سبق أن خصصت لألحانه لفيروز مقالا سابقا في هذه السلسلة ، ولا للملحن الفذ زكي ناصيف (الذي أنوي تناول أعماله في مقال منفصل قادم).
-4-
دور "رجعت ليالي زمان"
هذا هو الدورُ الوحيدُ الذي غنته فيروز من كلمات وألحان الأخوين رحباني، مقام حجاز كار كرد. حالةٌ طربيةٌ شديدةُ الروعة!!
بداية، الدورُ هو أعقدُ القوالبِ الموسيقيةِ العربية وأصعبُها على الملحن، لأنه يقوم على بناءٍ لحني شديد الثراء والتركيب انطلاقاً من كلمات تُختار عمداً بحيث تكون شديدة البساطة (يتضح ذلك بشكل خاص في أدوار سيد هذا القالب، الملحن المصري العظيم محمد عثمان). فيقوم بناءُ الدورِ على التقابلِ بين بساطة/سذاجة الكلمات، والتركيب المعقد للحن.
والفكرة هنا هي أن الكلام شديد البساطة –لدرجة السذاجة أحيانا- بحيث لا يتبقى سوى مهارة الملحن، وقدرات المطرب، لا يغطي عليهما شيء. وهذه فلسفةُ الدور، ولهذا كان يؤدى تقليدياً في ختامِ الوصلةِ الغنائية (بعد مقدمةٍ موسيقية في صورة بشرف أو دولاب، ثم موشح، ثم طقطوقة من نفس مقام الدور) لكي يكون المغني في قمة سلطنتِه وتوهجِه، عندما يبدأ في غناء الدور.
وتكون بنية الدور على النحو التالي: مذهب (كلمات "أ") بلحن (أ)، ثم كوبليه (كلمات "ب") بنفس لحن المذهب (أ)، ثم يتم إعادة الكوبليه(الكلمات "ب") بلحن جديد (ب)، ثم يلي ذلك آهات تستعرض قدرات المطرب الصوتية وتثري اللحن، ثم ارتجالات لفظية (تسمى تقليديا "الهنك" بفتح الهاء وسكون النون والكاف)، ثم يختتم الدور من نفس مقام المذهب (ولهذا يسمى الدور، نسبة لبنيتِه الدائرية وانتهائه دائما من حيث بدأ).
يطبق هذا لحنياً هنا، من خلال المذهب الذي يبدأ به الدور (رجعت ليالي زمان) في لحنٍ من الحجاز كار كرد (مع عُربَةٍ قصيرةٍ تخرجُ بنا لمقامِ الراست في جملة "رجعوا حبايب زمان" ثم تعود للحجاز كار كرد لنختم المذهب من حيث بدأنا). يتكرر ذلك في الكوبليه (عهدك بقلبي قديم) الذي يقال أولاً بنفس لحن المذهب كلام "ب" بلحن "أ").
وبعد ذلك نستمع لكوبليه (عهدك بقلبي) بلحن آخر من مقام الرست (=كلام "ب" بلحن "ب")، ثم آهات و"هنك" من مقامات الراست والبياتي والكرد، ليُختتم الدور كما بدأ في الحجاز كار كرد.
في هذا اللحن تظهر القدراتُ التلحينيةُ العظيمة للرحابنة، فهو أولاَ لحنٌ مصاغٌ من قالبٍ تقليدي لا يناسب التوزيعَ الأوركسترالي المركب ولا "الرسائلَ الفلسفية/السياسية" وفقا للفهم الرحباني، مما جعل تركيزُهما كاملا على جماليات اللحن فجاء في منتهى السلطنة.
و يلفت النظرُ في اللحن أيضا، تأثرُه الواضح بسيد درويش (الذي أثرَ بشكلٍ كبير في الرحابنة لحنيا وفي مسرحهما، الذي كانا يعتبرانه امتدادا لمسرح سيد درويش الغنائي). يظهر ذلك أيضا في اختيار مقام الحجاز كار كرد (وهو نفس مقام دور أنا هويت، أشهر أدوار سيد درويش)، مع مسحة وهابية واضحة تظهر في الآهات والهنك الحداثيين الذين يغيبُ عنهما "تطريب المشايخ" الذي ساد الأدوار قبل عبد الوهاب.
أما عن فيروز، فهذا الدور يظهر بشكل واضح رسوخها التام في فنون الغناء العربي وتملكها المطلق لناصيةِ المقاماتِ الموسيقية الشرقية. روعةٌ ما بعدها روعة!
-5-
طقطوقة "يا قلبي لا تتعب قلبك"
ننتقل الآن للمحطة الثانية مع الأخوين رحباني –في حالتِهما الطربية، الخالية من الهواجس غير الموسيقية التي أشرنا لها في مقدمةِ المقال- وتحية غنائية بديعة لمدينة بعلبك صاحبة النصيب الأوفر في صنع مجد فيروز.
ففي مهرجانِها الشهير، وعلى مسرحِها ومدرجاتِها، بخلفية الأطلالِ الرومانية للمدينة القديمة، قدمت فيروز العرضَ الأولَ لمسرحيتها الغنائيةِ الأولى، ولإحدى عشرة مسرحيةً غنائية من إجمالي 25 مسرحية غنائية قدمتها فيروز طوال مسيرتها الفنية. أي أن مدينة بعلبك وحدها كانت شاهدةً على انطلاقِ ما يقرب من نصف إنتاج مسرح فيروز والرحابنة الغنائي!!
في هذه الأغنية القصيرة تحية لمدينة بعلبك (الأغنية إنتاج 1965، مع عودة فيروز والرحابنة لمهرجان بعلبك بعد انقطاع 3 أعوام بمسرحية "دواليب الهوا"). الكلمات شديدة البساطة والرقة، تأتي على لسان المحب الذي يناجي محبوبَه، وخلاصتُها الأساسية هي أنه لابد من بعبلك ولو طال الغياب. لا يوجد بالكلمات ما يستعصي على الفهم للمصريين، ربما باستثناء كلمة "بتكفي المشوار" وتعني تُكمل المشوار، وكلمة "ملبك" وتعني مُرتبك. وتتكون هذه الطقطوقةُ البديعة من مذهبٍ قصير وكوبليهين.
أما اللحن الشجي، وهو من أروع ما لحن الرحابنة في نظري، ففي مقامِ البياتي، وهو في قالب الطقطوقة بطبعتِه التقليدية التي استخدمها سيد درويش. وبموجبها تقسم الطقطوقة لمذهب، ثم غصنين (=كوبليهين) يغنيان بنفس اللحن مع تغير الكلمات، على أن يتكرر غناء المذهب بين الكوبليهات.
يبدأ اللحنُ بمقدمةٍ موسيقية بديعة وشجية من مقام البياتي، ثم تغني فيروز المذهبَ كله من مقام البياتي، باستثناء جملة وحيدة هي "وبترجع ع دراج بعلبك" التي تأخذنا بسلاسة لمقام الراست، ثم نعود لمقام البياتي في قفلة"يا قلبي لا تتعب قلبك". هذه العُرْبَة القصيرة (=الانتقال للراست بسرعة في جملة واحدة، قبل العودة للبياتي) لا تؤدي وظيفة تطريبية فقط، وإنما تمهد وتعد السميعة للانتقال للكوبليهات. لماذا؟
لأن لحن الكوبليهات يُغَنَّى من مقام الراست (الذي تلقينا إشارة تمهيدية له في المذهب كما قلنا، ما يشير لأننا أمام ملحنين يفكران بعقلهما، ولا يلحنان فقط بوجدانهما). عموما، نبقى في الراست من بداية الكوبليه "ماشي والقمر ماشي"، ثم يستخدم الرحابنة لعبة معروفة في الطقاطيق السورية التقليدية، قوامها استعارة فكرة "الهنك" من قالب الدور لقالب الطقطوقة. وهنا نسمع "هنك" في مقام الراست في جملة "لا بتعرف وهج النار/ولا بتكفي المشوار"، ثم نعود بسلاسة شديدة لا تؤذي أذن المستمع إلى مقام البياتي في جملة التسليمة "وملبك بالحب ملبك/وتروح وترجع يا بعلبك" وهي الجملة الأخيرة في الكوبليه، والتي "تسلمنا" مجدداً لمقام البياتي الذي يقال منه المذهب بين الكوبليهات. شيء شديد الجمال. وتتكرر اللعبة في الكوبليه الثاني المطابق تماما في لحنه للكوبليه الأول.
وطبعا تتسلطن فيروز وتؤدي بسيطرة كاملة على اللحن، وعلى العُرَب والنقلات المقامية، وعلى الهَنْك. فيروز "المطربة المقتدرة" هنا في أوضح وأجلى صورها، في لحنٍ أعتقد بصراحةٍ شديدةٍ أن الرحابنة لو لم يلحنا غيره، لكفاهما شاهداً على عبقريتِهما اللحنية!
-6-
بعتلك يا حبيب الروح: التجريب في التراث
المحطةُ الثالثة، هي هذه الأغنيةُ القصيرة البديعة من كلمات وألحان العبقري زياد الرحباني، وهي تمثل تجربة فيروزية شديدة الطرافة. لماذا؟
أولا، لأن تجربة فيروز مع هذه الأغنية شبيهة بتجربة أم كلثوم مع طقطوقة "على بلد المحبوب" التي لحنها رياض السنباطي وغناها أولا عبده السروجي (وظهرت بصوتِه في فيلم وداد) وبعد أن أعجبتها الأغنية سجلتها بصوتها واشتهر هذا التسجيل.
شيء مشابه نجده هنا، فالأغنية أصلا غناها المطرب اللبناني العظيم جوزيف صقر في مسرحية "نزل السرور" تأليف زياد رحباني عام 1974، ثم أعجبت فيروز بها فسجلتها بصوتها وظهرت في ألبوم "وحدُن" عام 1979. وبالمناسبة، فإن فيروز أعادت تسجيل 3 أغاني لهذا المطرب اللبناني العظيم بصوتها هي: بعتلك، والبوسطة، وتلفن عياش.
وجهُ الطرافةِ الآخر أن زياد الرحباني قال في لقاء إعلامي أنه قصد باللحن تحية الملحنِ السوري العظيم محمد محسن (سيرد ذكرُه لاحقا)، فلحنه بشكلٍ تطريبيٍ تقليدي على النحو الذي نشهدُه في ألحان محمد محسن. وكان هذا اللحن البديع.
الأغنية قصيرة مكونة من مذهب وكوبليه واحد. والكلمات بسيطة وباللهجة المصرية ليس بها ما يحتاج لشرح، أما اللحن، فحكاية كبيرة. فهو مصاغ موسيقيا بشكل "تراثي تجريبي"!! ما معنى هذا؟
معناه أن زياد رحباني يجرب في اللحن هنا صيغة موسيقية هجينة بين قالبي الدور والطقطوقة، فنجد مذهب وكوبليه ثم يتكرر المذهب على طريقة قالب الطقطوقة، ولكننا نجد آهات وهنك كما في قالب الدور. والخلاصة؟ مزيج تجربيبي رائع بين قوالب موسيقية تراثية. من قال أن التجريب يجب أن يكون منبت الصلة تماما بالتراث؟
على كل، فإن زياد الرحباني يوازن هذا الشكل الهجين، بجمل لحنية في مقام واحد تلتزم به الأغنية من أولها لآخرها هو مقام "الحجاز كار" الجميل. بالتالي توازن وحدة المقام من جهة وبساطة الكلمات من جهة أخرى الشكل الموسيقي المركب غير المألوف الذي استخدمه زياد رحباني هنا. الجمل الموسيقية كلها من مقام واحد (الحجاز كار) كما قلنا، لكن زياد رحباني يرينا في هذا اللحن البديع أن بإمكان الملحن المقتدر تحقيق تنوع في الجمل الموسيقية، وهنك وآهات وكل ما تشتهيه أذن السميعة، داخل نفس المقام. شغل ملحن مقتدر بقامة زياد رحباني.
لا يبقي لي هنا إلا أن أنوه إلى أن أعمال زياد "التطريبية" (التي بدأها بلحنه الأول المبهر لفيروز "سألوني الناس"، واستمرت في ألحانه المسرحية مع رفيق دربه الفنان العظيم جوزيف صقر، وأغلب ألحانه اللاحقة لفيروز) شديدة الروعة، ولا تقل في نظري أهمية وتجريباً –إن لم تزد- عن ألحانه "الجازية" (نسبة لموسيقى الجاز). فمن قال أن التجريب يجب أن يكون منبت الصلة بالطرب والسلطنة؟ عموما ستكون لنا عودة في مقال قادم لزياد رحباني ومغامراته الموسيقية.
-7-
القصيدة القصيرة "جاءت معذبتي": العبقري المظلوم محمد محسن
الملحن العظيم محمد محسن هو ثاني اثنين فقط من الملحنين غير اللبنانيين الذين غنت لهما فيروز: هما محمد محسن ومحمد عبد الوهاب بجلالة قدره!! فنانٌ سوريٌ شديدُ الأهمية، أول من اكتشف الفنانة الكبيرة وردة ولحن لها عام 1957، وهو ملحنٌ عظيم من مدرسة العبقري رياض السنباطي، ولديه ما يقرب من ألف لحن لمطربين عتاة بينهم وديع الصافي ونجاة ومحمد رشدي ومحمد قنديل وفايزة أحمد، وكان محمد عبد الوهاب يقول "إن عُربَة واحدة في أي لحن لمحمد محسن تختزن الطرب الموجود في كل تراث الموسيقى العربية!!".
وقد لحن محمد محسن لفيروز خمس قصائد، أولها كان العملُ الفذ "سيدُ الهوى قمري" ومن آخرها هذا اللحن الذي وضعه لها عام 1996.
هذه الأبياتُ القصيرة شهيرةٌ جدا لدى جمهور فيروز، إذ كانت تُلقى (بدون لحن) في الأوبريت الشهير لفيروز والرحابنة "الأندلسيات"، الذي يبدأ كما أشرنا في مطلع المقال بلحن الرحابنة العظيم "أرجعي يا ألف ليلة" ثم يقدم مزيجاً من ألحانِهما والموشحاتِ التراثية، تتخلله مقاطعُ شعرية من بينها هذه الأبيات للشاعر الأندلسي "لسان الدين بن الخطيب" (هو أيضا صاحب الأبيات الشهيرة "جادك الغيث إذا الغيث هما/ يا زمان الوصل بالأندلس/لم يكن وصلك إلا حلما/ في الكرى أو خلسة المختلس").
الكلمات شهيرة وواضحة لا تحتاج لشرح. في هذه القصيدة القصيرة (الغناء يستغرق أقل من 3 دقائق، مع تقاسيم ومقدمة موسيقية لدقيقة ونصف)، نعرف بالضبط لماذا اعتبر عبد الوهاب أن محمد محسن يختصر في كل عُرْبَة من عُرَبِه كل طرب الموسيقى العربية!
البداية مع تقاسيم للقانون في مقام البياتي، ومقدمة موسيقية بالكمانجات ممتلئة شجناً، ثم تغني فيروز البيت الأول "جاءت معذبتي" في مقام البياتي، ونبقى فيه –مع لمسة لا تكاد تحس وتستغرق ثانيتين فقط لمقام النهاوند- ثم تحدث النقلة الكبيرة والرائعة لمقام الراست عند قول الشاعر "أما خشيت من الحراس في الطرق"، ونبقى في الراست (مع تذبذب ساحر بين مقامي البياتي والراست)، حتى نعود إلى مقام البياتي بشكل صريح عند قوله "لا يخشى من الغرق". لنختم القصيدة من حيث بدأنا.
هذا التنوع المقامي في لحن قصير مدته 3 دقائق يكشف حجم قدرات محمد محسن العظيمة وخياله الخصب، أما كون المستمع لا يشعر بهذه النقلات إلا عبر ما تحدثه لديه من طرب وسلطنة، فهي شهادة على تمكن فيروز المطلق من أداء الألحانِ الشرقيةِ المعقدة. بالمناسبة، لمحمد محسن 3 قصائد قصيرة أخرى لفيروز (غير هذه الأغنية، وسيد الهوى قمري) جميعها من كلاسيكيات الشعر العربي في العصر العباسي، وكلها لحنت عام 1996، هي "ولي فؤاد"، "أحب من الأسماء ما شابه اسمها" و"لو تعلمين". أنصح بالاستماع لها جميعا.
-8-
سكن الليل: الحنجرةُ الفيروزية بين يدي عبد الوهاب
كما أوضحنا، فإن فيروز لم تتعامل مع ملحنين غير لبنانيين إلا في حالتي محمد محسن، ومحمد عبد الوهاب. وبعكس تجربتها مع محمد محسن التي اقتصرت على القصائد، كان تعاونها مع عبد الوهاب أكثر تنوعاً، شمل إعادة تسجيل أغنيات قديمة له (خايف أقول اللي في قلبي، يا جارة الوادي) بالإضافة لغناء ألحان جديدة له تراوحت بين القصائد (مثال: مر بي) والأغاني الخفيفة باللهجة البنانية (مثال: اسهار). من قصائدهما سنستمع للعمل البديع "سكن الليل"، من كلمات جبران خليل جبران، مقام الكرد.
الكلمات واضحة ولا تحتاج لشرح، ما يهمني هنا هو لفت الانتباه لنقطتين: الأولى هي المزاج الرومانسي للقصيدة (والمقصود بالرومانسية هنا هو التعريف العلمي –لا الاستخدام الدارج– والذي يشير لمدرسة أدبية بعينها، تتماهى فيها ذات الشاعر مع الطبيعة، وتتقاطع الصور الشعرية بين وصف الحالة الوجدانية ووصف الطبيعة المحيطة في "الليل الساكن" بشكل يعكس موهبة جبران الكبيرة). والثاني، هو بناء القصيدة، فهي قصيدةٌ عمودية ولكنها متعددةُ القوافي على النحوِ المعروفِ في قصائدِ شعراءِ المهجر في مرحلةِ ما بين الحربين العالميتين. هذا التنوعُ في القوافي وفر مساحة حركة لملحن كعبد الوهاب لإطلاق خياله العبقري، والاستفادة من الإمكانات الصوتية لفيروز. فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة كانت مهرجاناً من النقلات المقامية يليق بلقاء العملاقين. خذوا عندكم: يبدأ اللحنُ بدقاتٍ تنبيهية من الوتريات (على الطريقة التي افتتح بها عبد الوهاب عددا من ألحانه، مثل إمتى الزمان يسمح يا جميل، ويكون الهدف منها تنبيه المستمع، وكأنه يقول له "خد بالك.. أمامك لحن جامد"!!). الدقات والمقدمة الموسيقية في مقام الكرد، وتبدأ فيروز الغناء في نفس المقام، حتى تصل إلى جملة "علنا نطفي" فتنتقل لمقام الراست وتظل فيه حتى نهاية المقطع. ثم تعود اللازمة الموسيقية لمقام الكرد، لتغني فيروز من مقام الكرد مجدداً "اسمع البلبل". ثم يزيدنا عبد الوهاب من بهلوانياته التي لا يقدر عليها غيره، فيلمس في جملة "يسكب الألحان" مقام الحجاز ثم يعود للكرد في أقل من 3 ثوان!!( أه والله العظيم)، ثم يقول كلمة "لا تخافي" من مقام النوا أثر، ثم "يا فتاتي" من مقام الحجاز كار!! ما معنى هذا؟
معناه أولاً أن عبدَ الوهاب يغيرُ المقامَ الموسيقي هنا كل كلمتين وليس كل مقطع أو كل جملة موسيقية! "إفتراء" حقيقي. ومن ناحية ثانية، يبدو جلياً أن عبد الوهاب يثقُ تماماً في قدراتِ فيروز التطريبية وقدرتِها على التنقلِ بين هذه "الهيصة المقامية" بدون أي جهدٍ أو ارتباك.
وتستمر الألعابُ الوهابية، فنذهب لمقام الكرد في جملة "فالنجوم تكتم الأخبار"، ثم ننتقل من الغناءِ الموقعِ إلى الغناءِ المرسلِ (يسمى Ad lib، ويعني الغناءَ مرسل بدون إيقاع) وذلك في جملة "وضباب الليل"، ثم يفتح عبد الوهاب اللحن بغرض استعراض اتساع مساحة صوت فيروز، التي تغني من الجواب (أي من النغمات العليا الحادة) لمقام الكرد "لا تخافي فعروس الجن"، ثم تنتقل للبياتي في "في كهفها المسحور" ثم تعود لمقام الكرد، ومنه إلى مقام الراست "ومليك الجن إن مر يروح" لتفعل فيروز الأعاجيبَ في عبارة "والهوى يثنيه" قبل أن نختتم بالكرد اعتبارا من جملة "فهو مثلي عاشق"، وتقفل فيروز قفلة مبهرة بذروة من جواب المقام (أي النغمات العليا الحادة للمقام، فيما يعرف بالكريشندو).
والخلاصة؟ مهرجان من النقلات المقامية، والتنويع الغنائي (بين الغناء المرسل، والغناء بالإيقاع، والمراوحة بين الغناء من الطبقات العليا والمنخفضة، والقفلة الحريفة!!) شيء لا يتأتى إلا من اجتماع الحنجرة الذهبية لفيروز، بإمكاناتها التطريبية الفريدة، مع أهم موهبة لحنية عربية في القرن العشرين.
-9-
يا مريم يا ست الأبكار: فيروز تغني ترنيمة قبطية عام 2015
بدأت فيروز الغناء كمنشدة كنسية. وفي أوج شهرتها قدمت ترانيم وألحان كنسية بديعة أعدها موسيقيا الأخوان رحباني وظهرت في ألبوم "تراتيل الميلاد". ولهذا، لن أختم هذه الزيارة للطرب الفيروزي، التي حاولت فيها إلقاء الضوء على الجوانب الأقل شهرة –ولكن الأكثر روعة- في الطرب الفيروزي، بآخر تسجيل حي لفيروز، وهو للترنيمة القبطية الوحيدة التي أنشدتها فيروز، وقد أدتها في مطلع العام الحالي، وهي على مشارف عقدها التاسع!! الترنيمة هي الترنيمة القبطية الشهيرة "يا مريم يا ست الأبكار" وهي في مقام الحجاز.
وستلاحظون هنا أن الترنيم باللغة العربية الفصحى منطوقة باللهجة المصرية (باعتبار أن الترنيمة مصرية قبطية، وستجدون هذا حاضراً في طريقة نطق حرف الجيم بالطريقة المصرية في كلمات"الأجيال/محجوبة...الخ"، ونطق الثاء تاء على الطريقة المصرية في كلمة "توب اليقين"، وهكذا). كما تلاحظون أن الترنيم مصاحب توقيعياً بالجرس والمثلث والطبلة فقط (مع دقاتٍ متقطعة نادرة من البيانو تلعب دورا إيقاعيا لا لحنيا)، على النحو المعمول به في التقليد الكنسي القبطي المصري، ولا حضور لفرقة موسيقية (كما في الترانيم السريانية الشهيرة التي أدتها فيروز بتوزيع الرحابنة).
وبشكل عام، فإن الترنيم القبطي لا يقوم على الاستعراض الصوتي أو النقلات المقامية المعقدة (كما في التراتيل السريانية، أو الإنشاد الديني الإسلامي أو تجويد القرآن) ولكنه يعتمدُ على تكرار نغمةٍ عذبةٍ وجميلةٍ يسهلُ حفظُها (بغرض أن يردد المستمعُ مع المرنمةِ). وبطبيعة الحال، فإن صوتَ فيروز يظهر عليه بعضٌ من أثرِ عمرها الثمانيني، لكن قماشته الذهبية وخامته العبقرية لا تخطئها الأذن.
أما أداوها فهو ذات الأداء الفيروزي الذي يعلو ولا يعلى عليه، وبساطة نغمات الترنيمة لا تجهد صوتها، بالتالي لا يشعر المستمع بآثار العمر إلا في ازدياد عمق الصوت قليلا عن صوتها في مرحلته الذهبية.
ملاحظتي الأخيرة ليست غنائية، ولكنها دعوة للقراء لتأمل التشابه المذهل بين تيمات هذه الترنيمة المصرية القبطية وتيمات المدائح والإنشاد الديني الإسلامي في بر مصر المحروسة (تيمات الشفاعة/العتق من النار/توب اليقين). الناس يشبهون بعضهم البعض بأكثر كثيرا مما يتصور الحمقى وضيقو الأفق!!
عموماً، كان ما سبق غيضٌ من فيضِ الطربِ الفيروزي العظيم. وأملي ان يشجع القراء على الاغترافِ من الكنزِ الموسيقي العظيم الذي أنتجته "فيروز الحقيقية"، التي ملأت حياتنا بالبهجة والطرب منذ أواسط القرن العشرين وحتى اليوم، وأن يتجاوزا حدود "الأسطورة المسيسة" التي تختصر فيروز في لون غنائي واحد ومحدود، وتحرمنا من كثير من أشهى ثمار بحر الطرب الفيروزي الزاخر.
استمتعوا وتسلطنوا! وكل سنة وفيروز بألف سعادة. وعقبال المئة.
تنويه: سبق نشر نسخة أولى من هذا المقال في موقع "أصوات مصرية" عام 2014 بمناسبة عيد ميلاد فيروز الثمانين.