لا أكاد أصدق أنه مر ما يقرب من أربعين عاما على قراءتى لهذه القصة القصيرة الرائعة، التى نشرت فى صفحة كاملة بجريدة الأهرام فى أوائل السبعينيات.
الذى ذكرنى بها من جديد وفاة كابتها الموهوب أحمد بهجت، منذ أيام قليلة، الذى ظل اسمه مرتبطا فى ذهنى، طوال هذه السنوات، بهذه القصة الأثيرة (أحفاد خوفو)، التى لم أحتفظ للأسف بنسخة منها، ولكنى مازلت أتذكر كثيرا من تفاصيلها بسبب كثرة المرات التى تكلمت فيها عنها، وأعدت حكايتها فى مناسبة بعد أخرى.
القصة تتلخص فى الآتى: أسرة مصرية صغيرة تنتمى إلى شريحة متوسطة من شرائح الطبقة الوسطى، تسكن بالقرب من ميدان الجيزة، وتقرر قضاء يوم الجمعة فى فسحة بالهرم. تناقش الزوجان فى مساء الخميس حول ما سوف يأخذونه معهم من طعام. لا أذكر بالضبط التفاصيل المتعلقة بالأصناف التى تناقشا بشأنها، ولكنها تضمنت أصابع المحشى، وسندوتشات التونة، والبيض المسلوق وأشياء أخرى كثيرة.
يسير الزوجان ومعهما ابن وبنت لا أذكر عمريهما بالضبط، ومعهم أيضا خادمة فى نحو العشرين من عمرها، حملت على رأسها سلة كبيرة تحتوى أصناف الطعام التى أعدتها ربة البيت فى المساء، ورتبتها بعناية فى الصباح، كما أضافت إليها الفاكهة وبضع زجاجات من البيبسى كولا أو شراب مماثل، إذ كانت كلما فكرت فى إضافة نوع من المأكولات أو المشروبات، وترددت فى ذلك، قررت فى النهاية أن تضيفه من باب الاحتياط.
سارت العائلة يتقدمها الزوج ببضع خطوات، ووراءه الزوجة والأولاد بخطوات بطيئة، بسبب ثقل وزن الزوجة، وراءهم الخادمة بخطوات أكثر بطئا بسبب ثقل ما تحمله من طعام.
صعد الجميع إلى الأتوبيس المتجه إلى الهرم، فوجدوا أماكن لجلوسهم جميعا إلا الخادمة. وكان من الممكن أن يستبشر الجميع بأنهم سوف يقضون فسحة سعيدة لولا أن لاحظ رب الأسرة شيئا فظيعا، فقد رأى شابا من الركاب يعاون الخادمة فى إنزال السلة من الأتوبيس ووضعها على الرصيف، واعتقد رب الأسرة اعتقادا جازما أن أيديهما قد تلامست، وأنهما تبادلا الابتسام. فما كان منه إلا أن استشاط غضبا وصب ألفاظا مهينة كثيرة على الخادمة، واصفا إياها بالخلاعة وقلة الأدب، حتى شرعت الخادمة فى البكاء.
استعاد الجميع هدوءهم بالتدريج ونسوا هذه الواقعة، بل واتسمت على وجوههم الابتسامات عندما رأوا هرم خوفو العظيم وعاد إليهم استبشارهم بفسحة جميلة. بدأ سيرهم البطىء نحو الهرم، ثم تباطأت خطواتهم أكثر عندما بلغوا بداية المنحدر الذى كان عليهم صعوده بأحمالهم الثقيلة. فلما بلغوا منتصف المنحدر رأوا شجرة لها مساحة من الظل لا بأس بها، فخطر لرب الأسرة أن يقفوا تحتها قليلا حتى يستعيد أنفاسه، ورحبت الزوجة بذلك، ووضعت الخادمة السلة على الأرض. ثم اقترح الرجل أن يفرشوا الحصيرة التى أحضروها معهم ليجلسوا عليها أثناء هذه الاستراحة القصيرة. جلس الجميع ثم خطر للرجل فكرة جهنمية هى أنه لا بأس بالمرة من أن يبدأوا الأكل من الآن، فلم يعترض أحد، وبدأت الزوجة ترص أصناف الطعام على الحصيرة ثم أقبل الجميع على الأكل فى شهية كبيرة.
كان من المحتم أن يشعر الزوج بالنعاس بعد الأكل، فإذا به يستسلم لإفغاءة قصيرة. فلما استقيط نظر إلى هرم خوفو بحماس أقل كثيرا مما استقبله به عندما رآه فى البداية. وتفوه بجملة فاجأت الجميع ولكنهم لم يشعروا بأى رغبة فى الاعتراض عليها. قال الرجل: ها هم قد رأوا الهرم، واستنشقوا بعض الهواء، فما الداعى لمزيد من الصعود المرهق إلى سفح الهرم؟
بذلك أعلن الرجل انتهاء الفسحة، فعادت الأسرة أدراجها إلى البيت.
لا أذكر الآن من القصة أكثر من ذلك، ولكنى فهمت تماما ما قصده أحمد بهجت من اختيار هذا العنوان البديع لها: «أحفاد خوفو».
***
مر كما قلت ما يقرب من أربعين عاما على نشر هذه القصة، تشمل معظم سنوات حكم السادات، وكل سنوات حكم حسنى مبارك، ثم قامت ثورة 25 يناير، وها قد كاد ينقضى عام كامل على قيامها. فلما سمعت بخبر وفاة أحمد بهجت، شعرت بالأسف لفقده، لما قدمه الرجل من خدمة جليلة من خلال كتاباته، وكان لابد أن أتذكر قصة «أحفاد خوفو». ولكن مر بذهنى هذا الخاطر السار: كم تغير المصريون خلال هذه العقود الأربعة، فى اتجاه معاكس لما وصفه أحمد بهجت فى قصته، وقد قدم شباب ثورة 25 يناير، الدليل القاطع على أنهم أكثر حرارة بكثير من جيلى (وهو نفس جيل أحمد بهجت) بأن يكونوا «أحفاد خوفو». بل أكاد أجزم أنه كان من المستحيل أن يخطر ببال أحمد بهجت أن يكتب قصة كهذه، بالمغزى الذى تحتويه، قبيل وفاته بقليل.
كان أحمد بهجت فى قصته يسخر بالطبع مما آل إليه أحفاد خوفو من ضعف الهمة، وحب الراحة، ولا مبالاة بأى شىء، وترتيب سقيم للأولويات. وكان يقول لنا إن المصريين الذين بنوا الأهرام لا يمكن أن يكونوا بهذه الصفات وإلا ما كان بقدرتهم أن يبنوا الأهرام أو أى شىء آخر، ولكن ها نحن نرى اليوم شبابا رائعا، يقيمون أسبوعا بعد أسبوع فى البرد القارس، بين رصيف مجلس الوزراء ورصيف مجلس الشعب، يرتدون أبسط الثياب، ولا يفكرون فى الأكل والشراب، ويواصلون اعتصامهم حتى بعد أن يصلهم طعام كاد يودى بحياة كثير منهم، ويعامل بعضهم البعض ذكورا وإناثا، بمنتهى التحضر، يدفهم إلى كل ذلك أمل واحد، هو أن يصبح مستقبل مصر ومستقبل أولادهم وأحفادهم أفضل بكثير مما شهدوه حتى الآن. هؤلاء إذن هم أحفاد أحفاد خوفو، فما أشد فرحنا وفخرنا بهم، مهما اختلط هذا الفرح والفخر بالدموع حزنا على من ضحى بحياتهم منهم مدفوعين بهذا الأمل.