فى الأيام القليلة الماضية شهد الاقتصاد المصرى عدة تطورات إيجابية أهمها تحسن درجة التصنيف الائتمانى الصادر من مؤسسة «فيتش» الدولية بما يعبر عن تحسن رؤية العالم لقدرة الاقتصاد المصرى على الوفاء بديونه الخارجية، والانخفاض فى أسعار البترول العالمية إلى أدنى مستوى منذ خمس سنوات مما يعطى الحكومة الفرصة لتخفيض دعم الطاقة (ومعه عجز الموازنة) دون زيادات جديدة فى أسعار البنزين والسولار، وأخيرا زيارة رئيس الجمهورية إلى الصين والتى تفتح آفاقا جديدة للتعاون الاقتصادى مع هذا البلد العملاق خاصة فى مجالات البنية التحتية. وتأتى هذه التطورات فى توقيت مناسب وقبل انعقاد المؤتمر الاقتصادى فى ١٣ و١٤ مارس المقبل.
ولكن مع هذا التحسن فى المؤشرات الكلية وما يتيحه من مساحة للحركة لم تكن متاحة من قبل، يصبح من الضرورى أن تنتهز الدولة هذه الفرصة لكى تتجنب الوقوع فى ذات الأخطاء السابقة ولكى تسعى لترجمة هذا التحسن فى المؤشرات الكلية إلى تغير حقيقى وإيجابى فى حياة المواطنين وإلى تصحيح جذرى للبنية الاجتماعية المختلة وتضييق الفجوة الآخذة فى الاتساع بين الفقراء والأغنياء والتى بلغت حد الانفصام التام بين عالمين منفصلين لا يكادا يلتقيان.
ما يدعونى للتعبير عن هذا القلق ليس الافتراض المسبق بأن النظام الحالى امتداد لنظام مبارك أو أنه سقط تحت سيطرة ذات رجال الأعمال أو أنه مستقر على تجاهل أحوال الفقراء. بل اعتقادى أن النية لدى المسئولين عن إدارة الدولة متجهة إلى التميز عن المرحلة المباركية بثلاث سمات: تجنب رجوع ممارسات الفساد الكبير، والحرص على عدم السقوط تحت سيطرة مجموعة من رجال الاعمال تسعى للاستحواذ على الثروة والسلطة، والرغبة فى تحسين أحوال الفقراء. ولكن الذى يدعو للقلق أن هذه النوايا الطيبة ليست كافية وأنه فى غياب رؤية شاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية وفى ظل الاعتماد على ذات الأدوات والسياسات القديمة فإن النتائج لابد وأن تكون ذات التى عرفناها من قبل: نمو اقتصادى سريع واستقرار مالى ولكن استمرار للخلل الهيكلى فى البنية الاجتماعية وغياب آليات مؤسسية لتحقيق العدالة.
إذا رغبت الدولة حقيقة فى استغلال التحسن فى المؤشرات الاقتصادية من أجل بدء مرحلة جديدة من التنمية الاقتصادية العادلة والمستدامة فعليها أن تلتزم أمام الشعب بتطبيق شبكة الحماية الاجتماعية التى يجرى دراستها والاستعداد لها منذ سنوات وتستطيع وزارة التضامن ان تطبقها لو توافر لها الدعم السياسى. إنشاء شبكة حماية اجتماعية توفر وجبة مدرسية لإثنى عشر مليون طالب ابتدائى، ومعاشا ضمانيا للمعاقين وكبار السن وغير القادرين على العمل، ودعما نقديا للأسر الأكثر فقرا، وتأمينا صحيا شاملا، ونظاما عادلا للإسكان الاجتماعى، واستثمارا فى تحسين نوعية التعليم وأحوال المعلمين، كل هذا لا يقل أهمية (ولا يزيد تكلفة) عن المشروعات القومية العملاقة التى يجرى تنفيذها ويحقق عائدا اقتصاديا واجتماعيا أكبر.
كذلك فإن الجهود التى تبذلها الحكومة لجذب استثمارات خليجية وأجنبية والاستجابة لمطالب كبار المستثمرين يجب ان يصاحبها اهتمام مماثل بأوضاع ومشاكل واحتياجات المشروعات الصغيرة والمتوسطة والعوائق التى تواجهها والمساندة التى تحتاجها فى التمويل، والتدريب، والمعلومات، والتسويق، والمعاملة الضريبية وغيرها. هذه المشروعات هى القادرة على أن تحقق نقلة نوعية فى خفض معدلات البطالة وفى تشغيل الشباب وفى تحقيق العدالة المنشودة وليس الانحياز لمطالب ومشاكل كبار المستثمرين وحدهم.
وأخيرا فإن هذا التحول الاقتصادى يتطلب بالضرورة أن يشهد المناخ السياسى انفراجة تخرج البلد من حالة الاستقطاب والتوتر، وتعيد للشباب الثقة فى المستقبل، وتؤكد على احترام الدستور والحقوق والحريات التى يكفلها، وتطلق طاقات الجمعيات الأهلية والمبادرات الشبابية والأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الطلابية وغيرها. نموذج التنمية الاقتصادية المستدامة والعادلة لا يمكن أن ينجح فى ظل مناخ سياسى مقيد وفى ظل احتقان وتضييق لحريات التنظيم والتعبير والاحتجاج، والدولة لن تتقدم اقتصاديا لو لم يشارك المجتمع بكل فئاته وأجياله فى الحوار والجدل وتحديد الأولويات ومراقبة تنفيذها.
الفرصة متاحة لترك سياسات الماضى وفتح صفحة جديدة لتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية معا، ولكن التمسك بذات الوسائل والأهداف والانحيازات القديمة لن يأتى بنتائج مختلفة.