بدأت علاقتي بالصحافة والإعلام كرسام. غادرت مصر بعد تخرجي من الجامعة بفترة قصيرة. نشرت أعمالي في صحف ومجلات وقدمتها في عدة معارض فردية في ألمانيا وفنلندا، وشاركت ببعضها الآخر في اليابان وكندا وبلغاريا. انقطعت علاقتي بهذا الفن مع استقراري في لندن. انشغلت بالعمل الصحفي ثم الإعلامي بعد انضمامي لبي بي سي التي قضيت فيها وقتا غير قليل.
سنوات من الانقطاع فرقت بيني وبين فرشاة الرسم وخلقت حاجزا من الرهبة حاولت تجاوزه أكثر من مرة وفشلت، فقررت الالتحاق ببعض ورش تعليم الرسم أملا في إعادة الدفء إلى علاقتي بالفن، واستعادة بعض من مهارة كنت أحسبها لدي، واكتساب خبرات جديدة لم يكن لي بها سابق عهد مثل التصوير الزيتي. كانت محاولة العودة إلى الذات التي بدأتها في الصيف الماضي مثمرة. انتجت في هذه الفترة عددا من الرسوم والاسكتشات ربما يتجاوز ما أنجزته منذ بدأت الرسم وحتى تحولت عنه إلى الصحافة والإعلام.
لا يوجد ما هو أحلى من إحياء الأحلام المؤجلة والانطلاق منها إلى آفاق أرحب. قررت المواصلة والالتحاق ببرنامج الدراسات الحرة في كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة حلوان ومقرها حي الزمالك وتحولت إلى طالب "مندس" بين مجموعة لطيفة متباينة الأعمار والخبرات من محبي فن التصوير الزيتي تحت إشراف ثلاثة مدرسين موهوبين ومجتهدين.
كان هذا هو الجزء الإيجابي من التجربة ولكن دعني أحدثك أيضا عن الجانب المؤلم. بعد دفع نحو ألفي جنيه ستكتشف أن الكلية لم توفر مكانا لكل طلابها. السبب ليس خلو الكلية من الأماكن، ولكنها صراعات داخلية يصبح فيها الدارسون ضحايا جانبيين لمعارك "التفشيل". يتحولون إلى "طلاب رحل" يتسول لهم مشرفوهم مكانا مختلفا في كل مرة، أو يطلبون منهم الرسم في حديقة الكلية، وعندما تعجزهم الحيلة يطلب منهم العودة للمنزل!
انقضى نصف مدة الدراسة في هذه الملهاة فكتبت للعميدة الدكتورة صفية القباني على صندوق رسائل صفحتها في فيسبوك أعيب فيها على الكلية أن تجد مكانا في خزانتها لرسوم الدراسة ولا تفكر في مكان للطلبة الذين دفعوها. انتظرت الرد وتسليت في أثناء ذلك بقراءة أحاديث صحفية أجريت معها كـ"أول سيدة تتولى منصب عمادة أقدم المؤسسات الفنية في العالم العربي" والذي رأت في حصولها عليه إحقاقا للحق وانتصارا للكفاءة. منحتني حواراتها دفعة من التفاؤل تلاشت تماما بعد ردها المختصر الصاعق: "مش شغلي".
رددت على الدكتورة صفية موضحا أنها مسؤولة عن أي خلل في منظومة تقديم الخدمة باعتبارها الممثل الوحيد لهذا الكيان الاعتباري الذي تعاقد مع الطلبة على تقديم خدمة بمقابل. لم ترد الدكتورة صفية على ما كتبته وسألتني: "حضرتك مين؟" أجبتها "طالب عند حضرتك في الدراسات الحرة" ثم أدركت أن تقدمي الواضح في السن الذي تعكسه صورة البروفايل قد يتعارض ربما مع المفهوم السائد عن كلمة "طالب" فأضفت "بس طالب كبير شوية". لم أسمع منها ثانية رغم تكرار التواصل.
عرفت بعدها أن وكيلا للكلية حدد أكثر من مكان للمجموعة وأخطر مجلس الكلية بالمشاكل مع رؤساء الأقسام. ثم ظهر أفق للحل عندما خصص مكان في أحد الأقسام بوساطة من المشرفين، ثم تلاشى الأمل بعدما تبين أن رئيسة القسم ترفض استعمال طلبة التصوير الزيتي الألوان الزيتية خوفا من اتساخ المكان!! دعا هذا المشرفين لابتكار فكرة "ما تيجي نرسم بالرصاص الأسبوع الجاي" (بدلا من التصوير الزيتي!)، وهو ما ذكرني بفكرة "ياللا نرسم في الجنينة" التي ظهرت في أسبوعين متتاليين لم نجد فيهما مكانا.
لم نصل للقاع بعد. عدم توفير مكان للطلاب ليس أكثر ملامح الفشل. استمارة الاستبيان التي توزع في نهاية الكورس لتقييم المشرفين، فيها سؤال طريف يكشف خللا أكبر. السؤال يطلب تقييم مدى التزام المشرفين بـ "المحتوى العلمي والتدريبات بالبرنامج". أي برنامج وأي محتوى علمي؟ المسألة لا تعدو أن تكون "نلم ألفين جنيه من كل واحد ونقسم الناس مجموعات. شوية تصوير وألوان، وشوية رسم، وشوية نحت وشوية جداري ونبعت لكل مجموعة شوية معيدين".
لا يوجد برنامج أو محتوى علمي معلن يمكن للطالب مقارنة ما قدم له به للإجابة على السؤال. أضف إلى هذا أن الكلية لا تنفق جنيها واحدا من المبلغ الذي ربما يتجاوز مليون ومئتي ألف جنيه سنويا على تنظيف الفصول والاستديوهات القذرة، أو إصلاح الكراسي وحوامل اللوحات الخشبية المكسرة والمنتشرة في كل مكان.
لم ترد العميدة على استفساراتي المتتالية ولم تتدخل سوى بإلقاء اللوم على من حولها أو من نقلوا لها المشكلة، وتجاهلت ما كتبته على صفحتي الشخصية مرارا من عرض للقصور المخجل في كافة جوانب هذه العملية التعليمية رغم أنني قمت بعمل "منشن" لها، ولوكيل جامعة حلوان لشؤون الطلاب، ولصفحة الكلية، ولصفحة قسم الدراسات الحرة. باختصار لم أسمع سوى صوت صرصور الحقل لأن شعار المنظومة كما عبرت عنه العميدة بوضوح هو "مش شغلي".
...
ملحوظة: بعد الفشل في تحريك اي مسؤول في جامعة حلوان يدعوكم طلاب كلية الفنون للانضمام إليهم في مليونية للدعاء على مسؤولي الكلية والجامعة بعد صلاة الجمعة القادمة بين الواحدة والاثنين ظهرا. لا تجعلها تقف عندك.