حقيقة (الرئيس التوافقى) - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حقيقة (الرئيس التوافقى)

نشر فى : الجمعة 24 فبراير 2012 - 8:50 ص | آخر تحديث : الجمعة 24 فبراير 2012 - 8:50 ص

فجأة ثار الكلام فى مصر عن «رئيس توافقى». فجرته وسائل الإعلام، ودعا المعلقون والمتخصصون فى العلوم السياسية لمناقشته. هل يجوز أو لا يجوز؟ فاختلف حوله الرأى، وإن كان أغلب المعلقين قد رفضوه. أما الشخص الذى ذكر فى البداية على أنه مرشح لأن يكون «رئيسا توافقيا» (وهو الدكتور نبيل العربى)، فقد أنكر تماما أن أحدا قد حادثه فى الأمر، وقال إنه حتى لو كان قد حادثه أحد فى الأمر، فلا يمكن أن يقبله أو يفكر فيه، وهو على أى حال لن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية تحت أى ظرف من الظروف.


والأمر مريب إذ لا يُعرف من الذى خطرت له الفكرة ابتداء. ومن ثم بدت الفكرة التى احتلت مساحات واسعة فى الصفحات الأولى من الجرائد، وكأن لا صاحب لها، ولا يمكن نسبتها لأحد. فهل كانت إذن مجرد «بالونة اختبار»، يراد بها جسّ نبض الناس، ومعرفة ما إذا كان من الممكن أن يقبلوها لو طرحت رسميا؟

 

والفكرة، فضلا عن ذلك، غريبة وليست مفهومة تماما. فإذا كان المقصود بـ«الرئيس التوافقى» رئيسا يجمع عليه الناس، أو غالبية الناس، ففى أى شىء يختلف هذا عن تقدم بعض الأشخاص للترشح للرئاسة، ثم يجرى التصويت عليهم، ويفوز بالمنصب صاحب أكثر الأصوات؟

 

أما إذا كان المقصود أن يتفق بعض «الكبار» من ذوى النفوذ، على شخص معين يرونه صالحا للرئاسة من وجهة نظرهم، ويبذلون جهدهم لإنجاحه، وينجحون فى ذلك باعتبارهم «كبارا» ومن أصحاب النفوذ، فكيف يتفق هذا مع مبدأ الديمقراطية والرجوع إلى الشعب، هذا المبدأ الذى قامت من أجله الثورة ابتداء؟

 

أما هؤلاء «الكبار»، فالأرجح أنهم يتكونون من المجلس العسكرى الحاكم، وجماعة الإخوان المسلمين أصحاب غالبية المقاعد فى مجلس الشعب، وربما اقتصر الأمر على ذلك. فخبرتنا فى الشهور الماضية فيما يتعلق بالانتخابات من ناحية، وبالعلاقة بين المجلس العسكرى والجماعة بعد الانتخابات من ناحية أخرى، ترجح أن ما يمكن أن يصلا إليه من اتفاق حول «رئيس توافقى» يمكن أن يتحقق فى الواقع، ولكن هذه النتيجة لابد أن تصيبنا بخيبة أمل لأكثر من سبب.

 

فأولا: أن جماعة الإخوان المسلمين التى تقع عليها المهمة الرئيسية فى تعبئة المصوتين فى الانتخاب، ليست مجرد حزب، ولا هى فقط حزب دينى، وإنما هى تنظيم له بعض الشبه بالتنظيم العسكرى. وأنت إذا كنت عضوا فى حزب فالمتوقع منك أن تتنازل عن جزء من حريتك بحكم ولائك لهذا الحزب، فلا تصوّت فى كل أمر من الأمور وفق ما يقودك إليه تفكيرك فى هذا الأمر بالذات، وفى ذلك الوقت بعينه، بل تلتزم بالموقف الذى يتبناه حزبك فى هذا الأمر وفى ذلك الوقت، تحقيقا لما تمليه المصلحة العليا للحزب. وإذا كان هذا الحزب دينيا فدرجة الولاء لقيادة الحزب تكون فى العادة أقوى، والخروج على ما تراه هذه القيادة فى أى أمر من الأمور يعتبر تمردا أكبر ويتطلب قدرا أكبر من الجرأة، فإذا كان الحزب فوق ذلك له بعض الشبه فى نظامه، بالتنظيم العسكرى، فالمتوقع من أعضائه انقياد وطاعة تشبه ما يتوقع من الجندى من طاعة لأمر الضابط المسئول عنه، أو طاعة الضابط لمن هو أعلى رتبة منه.

 

قد يبدو التصويت فى هذه الحالة، وإبداء الرأى فى الانتخابات، واختيار رئيس للجمهورية دون غيره، وكأنه نابع من إرادة حرة، ولكن الواقع قد لا يكون كذلك بالضبط. فحجم الحرية يتوقف على القدرة على ممارسة التفكير المستقل، وقد تكون هذه القدرة، فى هذه الحالة التى نتكلم عنها، أقل كثيرا مما نتصور.

 

إذا كان هذا التحليل صحيحا، فانتخاب رئيس للجمهورية بناء على هذا الاختيار المسبق «لرئيس توافقى» أبعد كثيرا مما نظن عن المبدأ الديمقراطى الذى كنا نتوق إلى تطبيقه.

 

ولكن هذا ليس العيب الوحيد فى اختيار «رئيس توافقى» على هذا النحو، بل وليس العيب الأكبر. إذ إن الأخطر من ذلك المعيار الذى قد يتم على أساسه اختيار هذا الرئيس التوافقى. فهناك احتمال قوى لأن يرمى التوافق بين قوتين أو أكثر من القوى المؤثرة فى عملية الانتخاب إلى تحقيق مصلحة أو مصالح ضيقة وأنانية لكل من هذه القوى الأطراف فى الاتفاق.

 

قد يكون الهدف مجىء رئيس للجمهورية أقرب إلى هوى المجلس العسكرى، أو إلى هوى جماعة الإخوان المسلمين، بسبب استعداده لتحقيق مصالح معينة لهذا المجلس أو لهذه الجماعة. وقد تكون هذه المصالح تتعلق بامتيازات اقتصادية أو سياسية، أو المحافظة على امتيازات سبق تحقيقها، أو بإطالة عهد أحدهما فى الإمساك بالسلطة، أو بتحقيق نوع من الاحتكار للسلطة فى مجالات معينة يهم بعض هذه القوى احتكارها.. إلخ.

 

ومن ثم نكون بصدد انقياد فى التصويت لصالح شخص أو أشخاص تحيط بهم من البداية شكوك فى مدى مراعاتهم للصالح العام، المناقشة تبدو فى الظاهر وكأنها منافسة حرة بين أطراف متساوية، فإذا هى فى الحقيقة منافسة بين أطراف بعضها أقوى بكثير من الأطراف الأخرى. فالفرص إذن غير متكافئة من البداية.

 

•••

 

لقد تندر أحد المفكرين السياسيين الأمريكيين مرة على نظام الانتخاب فى الولايات المتحدة، حيث يوجد حزبان كبيران لديهما أموال طائلة، ومن ثم قدرة كبيرة على تعبئة الأصوات والإنفاق على الدعاية، مما لا يتوافر لأى حزب أو شخص آخر. فقال «إن الديمقراطية الأمريكية هى أفضل نظام سياسى تستطيع شراءه بالنقود!».

 

والمقصود بذلك أن الحرية الحقيقية ليست متوافرة بسبب ضعف القدرة على التفكير المستقل، والتفكير المستقل فى هذه الحالة صعب أو مستحيل بسبب ما ينفق من أموال على حملات الدعاية وعلى غيرها. ولكن النقود ليست الطريقة الوحيدة لإضعاف القدرة على التفكير المستقل، فهناك أيضا الاستعداد للانقياد والطاعة، إما بسبب الأمر المباشر، أو بسبب استغلال البعض لقوة العاطفة الدينية لتحقيق مآرب خاصة.

 

•••

 

لا يسع المرء متى وصل إلى هذه النقطة إلا أن يلاحظ أوجه شبه مهمة بين هذه الحالة التى نصفها فى ظل اختيار «رئيس توافقى»، وبين ما يعرفه الاقتصاديون جيدا عما يحدث فى ظل ما يسمى «باحتكار القلة». فالاقتصاديون يميزون بين عدة أنواع من الأسواق. منها سوق «المنافسة الحرة»، حيث يوجد عدد كبير من المنتجين، كل منهم صغير الحجم، وينتج نسبة ضئيلة للغاية من إجمالى الإنتاج من سلعته (كمنتج سلعة زراعية كالقمح مثلا). فى هذه الحالة يتحدد سعر السلعة بتفاعل العرض والطلب، ولا يستطيع أحد من المنتجين أن يفرض سعرا معينا على المستهلكين، إذ كيف يستطيع ذلك وبجانبه آلاف أو ملايين من المنتجين لنفس السلعة؟ الوضع هنا يشبه حالة مرشحين كثيرين للرئاسة، ولا يتمتع أحدهم بمال أو نفوذ أكبر مما يتمتع به منافسوه، فليس لديه وسيلة لفرض إرداته على الناخبين.

 

وهناك أيضا حالة «الاحتكار»، وهى العكس بالضبط، حيث يوجد منتج واحد للسلعة أو الخدمة ولا يوجد منافس حقيقى له (كما فى حالة شركة الكهرباء مثلا أو شركة المياه). فى هذه الحالة يمكن أن نتصور قدرة الشركة على فرض السعر الذى تريده على المستهلكين لأنها آمنة من وجود أى منافس لها. يقابل هذه الحالة، فى السياسة، حالة الدكتاتور الذى لا يسمح لأحد أن يرشح نفسه ضده فى الانتخابات.

 

ولكن هناك أيضا الحالة التى تعنينا الآن وهى حالة «احتكار القلة». نعم هناك عدد من المنتجين وليس منتجا واحدا، ولكن اثنين أو ثلاثة منهم يتمتعون بمركز احتكارى واضح، إذ إن حجم إنتاج كل منهما وحجم الأموال التى يستطيع إنفاقها على الدعاية والتأثير فى الناس أكبر من حجم إنتاج وأموال أى منتج آخر لنفس السلعة أو لسلعة قريبة منها. انظر مثلا حالة شركتى البيبسى كولا والكوكاكولا، بالمقارنة بالشركات الأخرى المنتجة للمشروبات الغازية. ولكن هاتين الشركتين يمكنهما أيضا الوصول إلى عقد اتفاق بينهما على السعر فلا تبيع أيهما بأقل منه، دون أن تخشى أى منهما أن تتحداهما أى شركة أخرى صغيرة.

 

بعبارة أخرى، تستطيع هاتان الشركتان العملاقتان الوصول إلى «سعر توافقى» يحقق مصلحة الشركتين ولكن على حساب المستهلكين المساكين، وحالتنا مع «الرئيس التوافقى» لا تختلف كثيرا عن ذلك.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات