فى ورقة أصدرها صندوق النقد الدولى فى إبريل 2005 بعنوان: «هل يساعد تخفيض الديون فى حفز النمو بالدول الفقيرة» اختبر «بينيديكت كليمنتس» وآخرون فرضية مهمة مدارها تحسن فرص النمو فى الناتج المحلى الإجمالى بالدول شديدة الفقر كلما أمكنها التخلص من أعباء الديون، خاصة الدين الخارجى. الدراسة استندت إلى مبادرة أطلقها الصندوق والبنك الدوليين عام 1996 لما يعرف بالدول الفقيرة الأكثر مديونية Heavily Indebted Poor Countries (HIPC). الهدف من المبادرة ــ التى تدعم التسوية الشاملة لمديونية الدول الفقيرة عبر المساعدة فى خدمة دينها الخارجى ــ هو الحيلولة دون إعاقة الأعباء غير المستدامة للدين العام الخارجى للتنمية، فى أكثر دول العالم فقرا. أحد أبرز الدوافع خلف إطلاق تلك المبادرة هو الاعتقاد بأن أعباء خدمة الديون من شأنها إعاقة النمو الاقتصادى. المبادرة المشار إليها اشتملت على ثمانية وعشرين دولة غارقة فى الديون، بدأت بالفعل فى تلقى مساعدات لتخفيف أعباء مديونيتها الخارجية اعتبارا من منتصف العام 2004.
***
الكثير من الدراسات والأوراق البحثية اهتمت بأثر الديون على النمو الاقتصادى فى الدول الناشئة ومنها مصر، لكن بعضها فقط استطاع الوقوف على الفرق بين هذا الأثر فى تلك المجموعة من الدول، والأثر على مجموعة الدول الأكثر فقرا والأقل نموا، لأكثر من سبب: فمثلا الدول ذات الدخل المنخفض صعبة النفاذ إلى أسواق رأس المال الدولية، كما تتباين هياكلها الاقتصادية وقطاعاتها العامة بصورة ترجح استجابتها بطريقة مختلفة لأعباء الدين العام، وأيضا تتلقى تلك المجموعة من الدول مساعدات خارجية تسمح لها بالحد من الآثار السلبية لخدمة الديون على النشاط الاقتصادى..
فى سياق دراسة العلاقة بين الدين الخارجى والنمو الاقتصادى، ركزت الأدبيات على الاستقرار المالى، مرجحة الأثر السلبى لتراكم أرصدة الديون على ملاءة الدولة وقدرتها على الالتزام بسداد أقساط وفوائد تلك الالتزامات، ومن ثم على جذب مزيد من المقرضين والمستثمرين المحتملين. إذن لو ارتفعت مديونية الدولة إلى مستويات حرجة تزيد عن قدرتها على سداد أعباء خدمة الديون، فإن تلك الأعباء ترتفع بمعدل أكبر من معدلات نمو الناتج المحلى للدولة، وهو ما يعنى أن جانبا من العائد على الاستثمار بقطاعاتها يتم تآكله بفعل الدائنين، وهو ما يثبط الاستثمار المحلى والأجنبى على السواء.
كذلك يتراجع الاستثمار بفعل القلق المبرر من التدابير العشوائية المتخبطة التى يمكن للحكومات أن تتخذها بغرض تمويل العجز فى الموازنة العامة وسداد أعباء الديون. فمن المحتمل أن تقوم الحكومات ــ مثلا ــ بزيادة المعروض النقدى بنمط متعجل، مما يخلق ضغوطا تضخمية فى الأسواق، ومع زيادة حالة عدم اليقين لدى المستثمر المحتمل فإنه يؤثر الترقب والانتظار، أو فى أحسن الأحوال فإنه يضخ أمواله فى استثمارات آمنة سريعة العائد، عوضا عن الاستثمار طويل الأجل.
من ناحية أخرى فإن أعباء خدمة الديون لا تشجع قرارات الإصلاح الهيكلى والمالى، لأن ضغوط الدائنين تقيد وتقوض قرار الحكومات بالإنفاق العام فى مجالات الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى المختلفة، وتؤخر الخروج من دائرة الفقر إلى أجل بعيد.
***
الورقة المشار إليها فى بداية المقال، تخلص بعد مسح للأدبيات وللدراسات العملية والنماذج القياسية إلى أن ارتفاع مستويات الدين الخارجى من شأنه أن يبطئ من معدلات النمو فى الدول ذات الدخل المنخفض، خاصة إذا بلغت قيمة الدين (عند السداد) نسبة 50% من الناتج المحلى الإجمالى، أو بلغت صافى قيمته الحالية نسبة تتراوح بين 20% إلى 25% من الناتج المحلى الإجمالى للدولة الفقيرة. النتائج تتضمن أيضا التنبؤ بزيادة مباشرة تتراوح بين 0.8% إلى 1.1% فى نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى بالدول التى تضمنتها مبادرة صندوق النقد والبنك الدوليين دول HIPC وذلك مع التخفيف المستمر فى حجم مديونيتها الخارجية. كما أن متوسط النمو السنوى فى الناتج المحلى الإجمالى للدول الأكثر فقرا بطيئة النمو كان يدور حول 1.2% خلال الفترة 2000 ــ 2002 بينما لم يتعد 0.2% سنويا خلال حقبة التسعينات من القرن الماضى.
كذلك أكدت الورقة على أن كل نقطة مئوية زيادة فى خدمة الدين العام الخارجى كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، تخفض الإنفاق الاستثمارى الحكومى بنحو 0.2 نقطة مئوية، بما مؤداه أن تخفيض خدمة الدين بنحو ست نقاط مئوية كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى يؤدى إلى زيادة حجم الاستثمار العام بين 0.75ــ1 نقطة مئوية وهى زيادة تؤدى بدورها إلى ارتفاع معدل النمو الاقتصادى بنحو 0.2 نقطة مئوية.
***
ومن الاقتصاد الكلى إلى تطبيقات الاقتصاد الجزئى، فإن فرصة المنشأة فى الحصول على تمويل بغرض الاستثمار فى التوسع أو الإحلال والتجديد تحدها مديونية الشركة، وحجم القروض التى حصلت عليها، ونسبة الدين إلى حجم الأصول وإلى رأس المال. وتتشابه أيضا استجابة المستثمرين إلى دعوة الشركة المتعثرة ماليا لشراء أسهمها وسنداتها، مع استجابة المستثمر المحلى والأجنبى إلى دعوات الاستثمار فى اقتصاد الدولة الغارقة فى المديونيات. تتأثر إذن فرص الاستثمار والنمو فى الشركات العامة والخاصة (على السواء) بحجم المديونيات غير المستدامة التى تتضمنها قوائمها المالية. ومن ثم تتأثر نتائج الأعمال سلبا بحجم المديونية، وتراجع قدرة الشركة على سداد أعباء أقساط الديون وفوائدها. ينعكس ذلك مباشرة على نتائج التحليل الأساسى لأسهم الشركة وبالتالى على السعر السوقى لتلك الأسهم، ناهيك عن تراجع القيمة العادلة لسعر السهم بشكل ملحوظ بما يعوق من قدرة مساهمى الشركة على التخارج أو طرح أسهم زيادة لرأس المال... إلى غير ذلك من أعمال الشركات. غنى عن القول أن هذا النوع من المنشآت لن يتمكن من التمويل الذاتى لالتزاماته أو خططه الاستثمارية، ولن يتمكن أيضا من الحصول على قروض لا يدعمها المركز المالى المختل.
على مستوى القرار الفردى أيضا فإن السؤال المطروح على خبراء الاستثمار بغير إجابة حاسمة: هل ألجأ إلى استثمار الفوائض المدخرة أولا أم أقوم بسداد ديونى وتسوية معاملات بطاقات الائتمان المعلقة؟ ذهب بعض الخبراء إلى ضرورة احتجاز جانب من الدخل فى صورة مدخرات تصل إلى 20% على أقصى تقدير، تخصص «أولا» لسداد أية ديون تمثل الحد الأدنى المستحق الذى يمنع من تراكم الفوائد (فى بطاقات الائتمان مثلا). وأن يخصص 50% من الدخل فى سداد الالتزامات الأساسية للبيت من تكاليف المعيشة للسكن والخدمات... ويتبقى 30% للاستخدامات الشخصية.
ولأن الدين هم بالليل ومذلة بالنهار، ولأن التعجيل بقضائه تحض عليه الشرائع والفطرة السليمة، فقد تعوذ نبى الإسلام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من الدين فقال مناجيا ربه عز وجل: « اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».