في الساعة السابعة من صباح يوم الجمعة يبدو الشارع شبه خال من المارة، نخل الحديقة في حالة استرخاء تام بعد يوم عاصف اهتزّت فيه فروعه بقوة حتى أننا لو كنّا في مطلع الخريف لأمطرت السماء بلحًا ولارتسمت به علامات حمراء مبهجة فوق العشب الأخضر.
هناك في الزاوية ثلاث قطط على موعدها المعتاد مع لبن الجارة الطيبة تسقيها إياه ثم تهرول عائدة إلى بيتها قبل أن ينتبه إليها أحد وهي ترتدي ثياب النوم، أتابع هذه القطط وهي تكبر يومًا بعد يوم دون أن تظهر القطة الأم في الأنحاء. حرّاس العمارات مختفون، فهم يأخذون راحتهم في يوم الإجازة ولن يبدأوا في تنظيف السيارات قبل الساعة التاسعة على الأرجح. سكون الشارع متعة، والسحاب المراوغ الذي لا ينقشع ولا يمطر متعة، ولسعة البرد الخفيف في الأيام الأخيرة من شهر مارس متعة، أما الإحساس بأنه لا يوجد شيء مطلوب منك ولو مؤقتًا وأنك تستطيع أن تتثاءب براحتك فإن هذا متعة ما بعدها متعة. يتقدّم طفل لا يزيد عمره عن السادسة من سور الحديقة، يتلفّت حوله في حذر فلا يجد أحدًا يراه أو هكذا يتصّور، إنه أكثر براءة من أن يلحظ وجود امرأة ستينية في شرفة الطابق الخامس تراقبه باهتمام، ولعل مثلها آخرون يفعلون الشيء نفسه من وراء النوافذ، دعه لا ينتبه ويتصّرف على سجيته. يوسّع الطفل لنفسه مكانًا ينفذ منه إلى داخل الحديقة وتلك مهمة ليست سهلة، فَتَحْت إبطه توجد كرة ضخمة يحتجزها في مكانها بالكاد، لم يفكر في أن يلقيها أولًا داخل الحديقة.. ماحدّش ضامن. يقول أحمد شوقي أمير الشعراء: قد يهون العمر إلا لحظةً وتهون الأرض إلا موضعًا، وتلك هي لحظة الصغير وذاك هو موضعه فليتقدّم إذن.. تلوّى بمهارة فائقة كمثل الدودة الصغيرة ونفذ إلى الداخل بعد أن تكسّر من حوله بعض الأغصان المتشابكة، وتلك أول مخالفة. التقط كرته الضخمة وانطلق يدهس العشب والنباتات العشوائية الصفراء التي تتخلله، وتلك مخالفة كبيرة ثانية. ترى من أين جاء بالضبط هذا العفريت؟ الأرجح أنه ضيف على المنطقة فأطفال الشارع يعرفون جيدًا أنه من دون تعليق لافتة: ممنوع اللمس على سور الحديقة، فكل شيء وراء السور فعلًا ممنوع اللمس.
• • •
قبل خمسة وثلاثين عامًا بالتمام والكمال كانت هذه الحديقة عبارة عن أرض فضاء ترعى فيها امرأة بدوية قطيعًا من الغنم، وكان ذلك المرعى هو جزء من المشهد العام الذي أحاط بما عُرِف في حينه بصحراء مصر الجديدة، هذا الحي البعيد الذي أسسه البارون امبان فلم يكن يتردد عليه في البداية سكان القاهرة الخديوية إلا للضرورة، فإن اضطروا فإن وسيلتهم إلى ذلك كانت هي مترو مصر الجديدة الشهير الذي انتهى به الحال ليكون مجرد أثر تاريخي في حديقة قصر البارون. ثم جاءت السبعينيات لتشهد فترة نزوح جماعي في اتجاه مصر الجديدة ومدينة نصر، تزايدت المباني وتكاثَرَت كما يتكاثر الفطر وامتد العمران في عمق الصحراء حتى صار البشر يطاردون الأغنام والزواحف ويزاحمونهم في بيئتهم الطبيعية. وبفضل جهود بعض سكان الشارع تحوّل مرعى الغنم إلى حديقة تسّر الناظرين لكن هذا التحوّل لم يكن بالأمر السهل، فثقافة العمل التطوعي هشة ومن الطبيعي أن تجد مَن يتشكك في الهدف ومَن يتحسّب للجهد ومَن يرفض التبرع. أما وقد أزهرت الورود الملوّنة، وتوزعّت النباتات المنسقّة على أحواض الزرع في الزوايا الأربع وانتصب النخل الملوكي الفخيم عاليًا، فقد ظهرَت الصعوبة الكبرى الثانية: حماية هذه المساحة الخضراء من العبث. وكلمة العبث هنا تحتمل أي شيء، فكل فضاء قابل لتحويله إلى مقلب للقمامة- لا يهم إن كان هذا الفضاء مرعى أو حديقة. والأهم هو كيف نقنع أطفال الشارع والحي أن غصون الأشجار خُلِقت لتظلل لا للتعلق بها، أو أن هذا البساط الأخضر ليس ملعبًا مناسبًا للكرة، بل كيف نقنعهم بأن حقهم في اللعب والعفرتة يقابله حقنا في بيئة نظيفة وهواء نقي؟ هذا أمر محيّر فنحن نردّد دائمًا أن حقوق الإنسان تتكامل مع بعضها البعض لكننا لا نمانع في أن نفصل بين حق وحق إذا ما لزم الأمر. صار الدفاع عن الحديقة إذن معركة شبه يومية، ومثل كل المعارك كان فيها ربح وخسارة، فعندما وقع زلزال ٩٢ ونزل الكل إلى الشارع واحتّل منهم الحديقة مَن احتل وعاشوا حياتهم كما يقال، مضَت شهور طويلة قبل السيطرة على الوضع وإعادة الاعتبار للعشب والنبات والثمار والألوان وكل مباهج الحديقة المستباحة.
• • •
أخذ الصغير مزاجه من اللعب على الآخر فلم يزعجه أحد، ثم بدأَت الحياة تدّب في الشارع فحمل كرته تحت إبطه وتلوّى مرة أخرى مثل الدودة ليخرج من الفتحة التي أحدثها في السور واختفى في لمح البصر. أخذتُ رشفة من كوب الشاي الصباحي ولم يداخلني أي شعور بالندم لأني تواطأتُ مع الطفل الصغير، بالعكس وجدتُ الموقف طريفًا فلا بأس من لعب دور محامي الشيطان ولو على فترات متباعدة. عادت الفراشات الهاربة لتحوم كعادتها حول الورود وعندما حطّت عليها ذاب الفرق تمامًا بين الأوراق والأجنحة واندمج الجميع في جنة الألوان. استحضرتُ كلمات سيد حجاب اللطيفة جدًا التي تغنّت بها نيللي ويااااما هدهدتُ بها ابنتي في طفولتها حتى تغفو: كان فيه فراشة صغنططة مفرفشة ومزأططة.. لابسة بلوزة منقّطة على جونلة مخطّطة.. منقطّة ومخططة.