كثيرا ما كانت المدن تعرف بجرائدها.. كثيرا ما كانت المدن تفتخر بقرائها.. كثيرا ما كانت العواصم تعرف بدور نشرها.. هكذا كان الارتباط الشرطى بين المدينة وصحفها المتنوعة وكتاب أعمدتها وصحافييها المحترفين، بل وحتى بائعى صحفها الذى استوطن كل منهم على زاوية من شارع أو ناصية رصيف قريب أو ركن صغير فى مدخل مبنى معروف.. حتى هؤلاء كانوا قراء باحتراف يقولون لك قبل أن تقبل على شراء الجريدة ألا تنسى هذا العمود أو ذاك الخبر أو التحقيق وحينها أيضا كان هناك جمع من الصحفيين المختصين فى كتابة التحقيقات وخاصة الاستقصائية منها..
هذا قد يتحول قريبا إلى تراث أو مادة لكتب التاريخ الحديث أو حتى مادة لأحاديث المساء فى المدن المتعبة.
•••
كانت الحرب لم تطلق رصاصتها الأولى ولكن كانت أجواء الحرب مخيمة على تلك المدينة المضيئة التى جمعت كل الأدباء والسياسيين والشعراء من كل الوطن الكبير لتفتح لهم هذه المدينة أذرعها بل وتجعلهم جزء لا يتجزأ من تضاريسها..انغرس هؤلاء فيهاو أصبحوا جزءا لا يتجزأ من أحاديثها وندواتها ومؤتمراتها، بل واختاروا مقهى بعينه ليكون هو ملتقاهم اليومى ومركز حواراتهم التى تسخن بعض الشىء بل ويعلو فيها الصراخ، ولكنه كان زمن مختلف لم يكن الحوار ليتحول إلى تراشق بالرصاص ولم يكن الاختلاف يعنى الدم والموت المعلب بأسماء قد تبدو أحيانا رومانسية وحالمة جدا..
فى تلك المدينة كان الصباح يعنى جريدة وفنجان قهوة وربما عند البعض سيجارة أولى.. فى الصباح لا يمكن أن يجلس أحدهم دون أن تكون الصحف رفيقا له.. حينها كنا نتسابق على بائع الصحف الوحيد بداخل حرم الجامعة الأمريكية فى بيروت وكان أن يكرر لقد خبأتها نسختك من السفير أو النهار وإلا لكان اليوم لن يبدأ حقا أو أنه يتحول إلى حفلة فى النكد..
لا أعرف ماذا حدث له ربما تحول إلى مهنة أخرى وما أكثرها هذه الأيام أمام نفس ذلك المبنى الكبير العراقة.. الآن تحول الشارع الشهير.. شارع بلس من شارع للمكتبات وبائعى الجرائد والقرطاسية وبينهما بعض المطاعم والمقاهى، إلى شارع متكامل تتلاصق فيه المقاهى والمطاعم ومحلات الصاج أو العصير والبوظة صيفا..
•••
تغيرت معالم هذا الشارع الشهير ولم يعد أى شىء فيه يشبه ما كان عليه حتى الطلاب لا يحملون سوى اللاب توب والهواتف الذكية وقليل من الورق.. كله ترك الورق وحيدا لأنه ربما أصبح «موظة قديمة» فى مدينة تعشق آخر صيحات الموظة حد التقديس!!! سيصعب أن تجد من يبيع الصحف وإذا وجدت مكتبة صغيرة وفى إحدى زواياها نسخ متواضعة من الجرائد فستكون حتما فى الجزء المظلم من هذه المكتبة المحصورة أصلا بين كتب المقررات فقط لا أكثر ولا أقل.. أما المقاهى المكتظة فقليلا أو ربما نادرا أن ترى أحدهم يحمل صحيفة ويتابع أخبارها، عندما أصبحت الأخبار تأتى معلبة مختصرة فى شكل رسائل نصية على الهواتف واكتفى كل هذا الجيل بالقصير والسريع.. حتى إن ما يحدث اليوم من الانتحار الجماعى للصحف فى أعرق مدينة إعلامية لا يتحول إلى حديث الا لنخبة قليلة جدا.. تراجعت قراءة الصحف فى كل العالم وأخيرا تخلت العديد من الصحف العريقة عن النسخ الورقية لصالح النسخ الالكترونية، ولكن كل ذلك كان يحدث هناك فى عواصم النور مع كثير من الضجة والحوار حول ما الذى سيحدث للصحف التى شكلت جزءا من الذاكرة البشرية فى كل مكان..
قد تصحو هذه العاصمة يوما على صباحات بقهوة دون جريدة كما تصحو كل يوم على نفس الأمور المعلقة منذ أشهر إن لم يكن سنين. فقد تعوّد سكانها على أن يحدد مصيرهم فى مكان آخر غير عاصمتهم... وربما لصحفهم وإعلامهم من يحدد له أن ينتهى فتسدل الستارة على حقبة عربية كاملة كانت تزينها أقلام وصحفيون حقيقيون وجرائد تحمل مساحات واسعة من الحرية كانت موضع حسد من قبل العديد من الصحفيين فى المدن حديثة العهد بالاعلام والصحافة!!
•••
عدت لبائعى الصحف الواقفين فى أماكنهم منذ سنين والذين تحولوا إلى جزء من تلك الأرصفة والشوارع ومعلم من معالم المدينة وكان السؤال يا ترى كيف سيكون مصيرهم بعد أن تغلق الصحف أبوابها وتصبح المدينة هى الوحيدة دون جريدة!!!
كاتبة بحرينية