فى التاسع من شهر أكتوبر 1973، اليوم الرابع على عبور القوات المصرية الضفة الشرقية لقناة السويس، خيمت الهزيمة على القادة الإسرائيليين الذين سقطت أوهامهم بشأن قدرة خط بارليف «الحصين» على حمايتهم من نيران الجنود المصريين الذين قهروا «الجيش الذى لا يقهر»، فسارعت رئيس الوزراء الإسرائيلية وقتها، جولدا مائير، لطلب النجدة، من الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى وقع صرخات جولدا مائير لوزير الخارجية الأمريكى، الداهية هنرى كيسنجر، بدأت الولايات المتحدة يوم 13 أكتوبر فى بناء جسر جوى لإمداد تل أبيب بعشرات ألوف الأطنان من الأسلحة والعتاد، لتعويض الخسائر الفادحة التى تكبدها الجيش الإسرائيلى الذى راح يلملم شتات نفسه، بعد تلقيه أعنف الضربات على يد أبطال الجيش المصرى فى سيناء.
هكذا هبت الولايات المتحدة لإنقاذ إسرائيل عسكريا أمام خطر وجودى تعلم أنه سيلحق بتل أبيب إذا لم تهرع لنجدتها وقت احتدام المعارك، هذا المشهد الذى مضى عليه ما يقرب من 48 عاما، استدعته الذاكرة وأنا أشاهد الرئيس الأمريكى جو بايدن الذى كان قد أدار ظهره للمنطقة، عامدا متعمدا، وهو يغير مساره كليا، لنجدة إسرائيل بسلاح الدبلوماسية.
قد يرى البعض أن مشهد حرب أكتوبر يختلف عن العدوان الإسرائيلى على غزة الذى استمر 11 يوما، وكان لإسرائيل اليد الطولى فيه بحكم امتلاكها آلة حربية جبارة فى مواجهة إمكانيات عسكرية محدودة لفصائل المقاومة الفلسطينية، وربما يقارن البعض الآخر بين الخسائر البشرية والمادية بين الجانبين، غير أن ما يجمع بين حرب أكتوبر والمواجهات الأخيرة فى غزة، هو انكشاف إسرائيل أمنيا، وسقوط نظرية أمنها القومى.
لأول مرة منذ سنوات طويلة يهرع الإسرائيليون إلى الملاجئ للاختباء من زخات الصواريخ القادمة من غزة، والتى لم تفلح القبة الحديدية فى منع وصولها إلى تل أبيب والعديد من المدن الأخرى، فتوقفت المصانع، وشلت الحياة فى العديد من المرافق، ورحنا نسمع صرخات الإسرائيليين فى الشوارع، وبدا نتنياهو أمام مشهد يتطلب التحرك السريع لطلب النجدة الدبلوماسية من واشنطن وتدخل القاهرة، قبل موافقته على وقف إطلاق النار من دون قيد أو شرط.
وكما ألح الإسرائيليون على الأمريكيين لنجدتهم فى حرب 1973، ضغطوا لتدخل واشنطن الدبلوماسى، الذى لم يأت ثماره إلا بالتحرك المصرى، فوجه البيت الأبيض الشكر للقاهرة على ما بذلته من جهود كبيرة للتوصل إلى هدنة، وهى الجهود التى أجبرت القيادة الأمريكية على تذويب الجليد الذى اعترى العلاقات مع مصر بوصول بايدن إلى سدة الحكم قبل خمسة أشهر، بل إن بايدن نفسه اتصل لأول مرة بالرئيس السيسى.
هذا التغير فى الموقف الأمريكى لم يكن لنراه لولا وقوع إسرائيل فى ورطة أمنية كبيرة استدعت طلب النجدة الأمريكية، بعد أن وجدت تل أبيب نفسها تحت نيران صواريخ المقاومة، وخروج الفلسطينيين من كل مكان فى فلسطين المحتلة لمواجهة الإسرائيليين بكل سلاح ممكن، ورأينا إبداعا فلسطينيا خالصا خلال تلك المواجهات اليومية.
الهدنة أنهت جولة من صراع سيطول أمده مع العدو الصهيونى، أبلى فيها الفلسطينيون خير بلاء، وأعادت مصر إلى لعب دورها الصحيح فى دعم الأشقاء، وفتحت عيون أجيال جديدة على الخطر الإسرائيلى الداهم على منطقتنا، كما عرت العديد من المتخاذلين، ومن يتملكهم الشعور بالدونية تجاه عدو لن يحمل عصاه ويرحل عن الأراضى الفلسطينية إلا كرها.
إسرائيل أضعف من أن تقاوم الفلسطينيين إذا أحسن هؤلاء استثمار قواهم الذاتية، وقدرات ظهيرهم العربى والإسلامى، لكن الأمر مشروط بتوحيد صفوفهم، والتخلص من الانقسامات والأمراض التى تصيب حركات التحرر الوطنى فى بعض فتراتها، فتحرير فلسطين، بالأساس، لن يكون إلا بأيدى أبنائها.