روشتة العلاج: تفعيل الكروت الذكية والدعم النقدى المشروط وإحياء مشروع الوجبة المدرسية ومعاش جديد لذوى الإعاقة وزيادة الإنفاق على النقل العام
مطلوب برنامج متكامل لحماية وتعويض ومساندة الفقراء حتى لا يدفعون ثمن القرارات ومن دون الاستفادة من آثارها الاجتماعية
مطلوب ترسيخ مبدأ أن الحماية الاجتماعية حق لمن يستحقها ..وعلينا التوقف تماما عن فلسفة منح الفقراء هدايا ومسكنات قبل الأعياد والانتخابات
لم يگن موفقا صدور قرارات الدعم الأخيرة دون أن يصاحبها برنامج حگومى ملزم لبناء شبگة الحماية الاجتماعية
لا أظن أن هناك موضوعا اقتصاديا حظى بإجماع فى الآونة الاخيرة أكثر من دعم الطاقة وأثره السلبى على الموازنة العامة وضرورة تخفيضه بشكل حاسم. والموضوع يمكن تلخيصه كالآتى: أن متوسط دعم الطاقة (دعم المواد البترولية + دعم الكهرباء) خلال الأعوام الثلاثة السابقة بلغ ١٢٢ مليار جنيه سنويا وهو رقم يمثل نحو ٢٠٪ من حجم الانفاق الحكومى السنوى. ومعنى هذا ان ما يقرب من جنيه كامل من كل خمسة جنيهات انفقتها الحكومات المتعاقبة منذ يونيو 2011 وحتى يونيو 2014 استغرقه دعم الطاقة وحده، وهو رقم هائل بكل المعايير وغير قابل للاستمرار، كما انه أحد الأسباب الرئيسية للعجز المستدام فى الموازنة العامة للدولة والذى تأمل الحكومة الحالية النزول به إلى ١٠٪ بنهاية العام الجارية عدما كان قد بلغ قمته بالاقتراب من ١٤٪ بنهاية العام المالى المنتهى فى يونيو ٢٠١٣. هذا العجز الكبير فى الموازنة بدوره سبب رئيسى لعدم قدرة الدولة على توفير الموارد اللازمة للتنمية ولتحسين البنية التحتية والخدمات، كما يحد من قدرة الاقتصاد على جذب الاستثمار وعلى توفير فرص العمل. المرض إذن حقيقى وترجع أسبابه إلى سنوات طويلة من السياسات الخاطئة التى لا مجال لاسترجاعها هنا، وكان لابد من التصدى له عن طريق تخفيض دعم الطاقة ان عاجلا ام آجلا.
ومع ذلك فإن كان تخفيض دعم الطاقة فى حد ذاته محل اتفاق واسع، فإن الأسلوب الذى طبقت به الحكومة هذا القرار والملابسات التى صاحبته قد جانبها الصواب لأنها لم تقدم للناس فى ذات الوقت برنامجا متكاملا لحماية وتعويض ومساندة الطبقات الأكثر فقرا من آثاره التضخمية الحتمية، وهو ما يستوجب تصحيحا عاجلا وتوضيح النية الحكومة فى هذا الشأن حتى لا ينتهى الأمر وقد دفع المجتمع ــ وبخاصة الفقراء منه ــ ثمن تخفيض دعم الطاقة دون الاستفادة بآثاره الإيجابية على الموازنة العامة.
والمقصود ببرنامج الحماية الاجتماعية ليس العودة لإعطاء المسكنات للفقراء أو توزيع بعض العطايا عليهم من وقت إلى آخر كسبا للود أو إجهاضا لغضب محتمل، بل هو مجموعة السياسات والإجراءات والقوانين التى تمنح محدودى الدخل والفئات الأكثر احتياجا المساندة المالية والعينية التى تمكنهم من الخروج من دائرة الفقر، ومن التمتع بالحد الأدنى من العيش الكريم، ومن التأهل وامتلاك الفرصة والأدوات للتقدم والمنافسة. وتحقيق ذلك ليس سهلا لأنه يتطلب بناء قاعدة معلومات عن المستفيدين من كل انواع الدعم والإنفاق الاجتماعى، وتحديد الفئات والطبقات المطلوب دعمها (ما يسمى بالاستهداف)، كما يتطلب تعاونا بين الوزارات والهيئات الحكومية من اجل تحقيق السياسة الاجتماعية المنشودة. ولكن بقدر صعوبة الموضوع فإن مصر قطعت شوطا كبيرا منه بفضل جهود متراكمة على مدى سنوات طويلة بدأت منذ كان د. على المصيلحى وزيرا للتضامن الاجتماعى (وللأسف فقد تم تجاهل جهوده ووأد تجربته الرائدة بسبب عدم الاكتراث بقضية العدالة الاجتماعية) وصولا إلى انشاء وحدة العدالة الاقتصادية بوزارة المالية فى عهد د. احمد جلال، ولا تزال مستمرة من جانب وزيرة التضامن الاجتماعى حاليا. وقد استندت هذه الجهود إلى ضرورة التلازم بين تخفيض دعم الطاقة وتطبيق سياسات تقشفية من جهة و بناء شبكة الحماية الاجتماعية التى تحمى الفقراء من الاثار التضخمية لسياسات التقشف من جهة اخرى.
لذلك فقد كان مفاجئا ــ وفى تقديرى غير موفق ــ ان تصدر قرارات تخفيض دعم الطاقة الأخيرة، برغم انها فى حد ذاتها قرارات صائبة، دون ان يصاحبها الإعلان والالتزام ببرنامج حكومى لبناء شبكة الحماية الاجتماعية، الامر الذى يعبر عن العودة للاهتمام بتحسن مؤشرات الاقتصاد الكلى لما لها من أثر إيجابى على النمو الاقتصادى والاستثمار، ولكن دون ان يصاحب ذلك اهتمام مماثل بالسياسات الاجتماعية التى تحقق العدالة وترفع الفقر عن المواطنين. وقد زاد الأمر سوءا ان بعض المسئولين الحكوميين سارعوا بالتصريح بأن تخفيض الدعم عن الطاقة لن يؤدى إلى زيادة الأسعار، وأن القرارات الأخيرة تأتى لصالح الفقراء، وان الدولة سوف تتدخل لفرض تسعيرة على السلع والخدمات، الأمر الذى ترك انطباعا بأن هؤلاء المسئولين فقدوا إحساسهم بالمواطنين واتصالهم بالناس لأن الزيادة فى الأسعار قد حدثت بالفعل بمجرد صدور قرار تخفيض الدعم، ولأن الدولة لا يمكنها مراقبة تسعير كل السلع والخدمات، وكان الأجدر ان تعترف بزيادة الأسعار بدلا من إنكارها وتضع جهدها فى تطبيق السياسات التى تحمى الفقراء من آثارها السلبية.
ومع ذلك فإن الوقت لم يفت بعد، ولايزال بإمكان الحكومة ان تتدارك ما حدث بالإعلان عن برنامج واضح وقابل للتنفيذ للحماية الاجتماعية، يتضمن على الأقل ما يأتى:
١) تفعيل نظام الكروت الذكية لتوزيع البنزين والسولار والذى أنفقت عليه الدولة موارد كبيرة طوال السنوات الماضية وينبغى معرفة ما الذى حدث له ولماذا لم يتم تطبيقه لترشيد دعم الطاقة قبل زيادة أسعارها على الجميع.
٢) تطبيق برنامج الدعم النقدى المشروط الذى جرى دراسته وتجربته بواسطة وزارة التضامن الاجتماعى والذى يستهدف حصول الأسر الأكثر فقرا على دعم نقدى مرتبط بانتظام الأولاد والبنات فى المدارس وبالتزامهم بالتطعيم الطبى.
٣) إحياء مشروع الوجبة المدرسية لتلاميذ المرحلة الابتدائية والذى يهدف إلى توفير وجبة غذائية متكاملة جافة لاثنى عشر مليون تلميذ ابتدائى فى أنحاء الجمهورية ولمدة مائة وثمانين يوما على الأقل فى العام الدراسى.
٤) بدء تطبيق نظام معاش جديد لذوى الإعاقة وكبار السن ممن لا يستحقون فى الوقت الحالى المعاش الضمانى.
٥) زيادة الإنفاق على وسائل النقل العام بمختلف صورها وزيادة الدعم المخصص لها لكى يمكن لأصحاب الدخول المحدودة الاستغناء، ولو جزئيا، عن المواصلات الخاصة التى زادت أسعارها وصارت مصدرا للإهانة وسوء المعاملة.
<<<
قد يقال إن هذه الحماية الاجتماعية ــ اذا ما تم تطبيقها ــ سوف تكلف الموازنة العامة أعباء إضافية ربما تتجاوز ما تم توفيره من دعم الطاقة فنعود مرة اخرى إلى نقطة البداية وإلى انفلات عجز الموازنة من جديد. ولكن هذا الرأى مردود عليه بأن تكلفة برامج الحماية الاجتماعية المذكورة، لأنها تعتمد على استهداف الفقراء وتستبعد من لا يستحقون الدعم، تقل كثيرا فى تكلفتها عما يتم توفيره من دعم الطاقة وحده. فتكلفة مشروع الوجبة المدرسية مثلا لا تتجاوز سبعة مليارات جنيه لو طبقت بالكامل، أى ٥٪ فقط من موازنة دعم الطاقة فى العام الماضى، وهذه ميزة سياسات الدعم والإنفاق الاجتماعى التى تستهدف الفقراء بدلا من ان تكون موجهة لكل المجتمع بمن فيه من لا يستحقون. كذلك فإن مجرد نقل جانب من الإنفاق الحكومى الموجه إلى الشعب بأكمله، اغنياؤه وفقراؤه، إلى استهداف الأسر الأكثر فقرا والطبقات الأكثر احتياجا هو فى حد ذاته مكسب كبير لأنه ينطوى على عملية اعادة توزيع للدخل لصالح الفقراء. واخيرا فإن الانتقال من نظام الدعم التقليدى الذى لا يميز بين غنى وفقير إلى برامج الحماية الاجتماعية القائمة على الاستهداف يعنى أيضا ان من تتحسن أوضاعه الاجتماعية لأى سبب (العاطل الذى يجد عملا، والطالب الذى يتخرج، والأسرة الفقيرة التى يزيد دخلها) يخرج من مظلة الحماية المقررة له وبالتالى يفسح مجالا لمن هم اكثر احتياجا منه لأن المبدأ هنا أن الحماية لا تشمل الا من يستحقها ولا تمتد تلقائيا إلى الأبد دون مراجعة. لكل هذه الأسباب فإن وضع وتطبيق برامج للحماية الاجتماعية بدلا من استمرار نظام الدعم التقليدى يساعد على تقليص عجز الموازنة وفى ذات الوقت يحقق عائدا اجتماعيا افضل وأكثر عدالة.
قد يقال أيضا إن كل هذه المخاوف والتحفظات على قرارات زيادة الأسعار الاخيرة لم تعد ذات قيمة أو اعتبار لأن الزيادة وقعت بالفعل دون مشاكل كبرى فى الشارع ودون ان تثير اضطرابات أو مظاهرات أو شغب، بل يبدو ان الناس قد تقبلتها وتعايشت معها. ولكن هذا قول يستند إلى الاعتقاد بأن الخطر الوحيد الجدير بالاهتمام هو الانفلات الامنى، بينما الموضوع ليس أمنيا فحسب بل القضية اجتماعية وإنسانية قبل كل شىء آخر، والمشقة التى تعرض لها اصحاب الدخول المحدودة من جراء زيادة الأسعار الاخيرة لا ينبغى قبولها باعتبارها أمرا عاديا طالما لم تتحول إلى تهديد أمنى. ولنتذكر ان التخفيض الأخير فى دعم الطاقة ليس نهاية المطاف بل يلزم ان تلحقه خطوات اخرى مماثلة خلال السنوات القليلة القادمة حتى يصبح الدعم فى المستوى المقبول اقتصاديا. ولذلك كان ينبغى ان يكون لهذه الخطوة الاولى مصداقية لدى الناس حتى يمكن تكرارها مستقبلا والجمهور مطمئن إلى ان كل تخفيض فى الدعم وكل زيادة حتمية فى الأسعار سوف تصاحبها إجراءات كافية لتحقيق الحماية الاجتماعية.
<<<
ما المقترح إذن؟
لا شك أن العودة عن قرارات تخفيض دعم الطاقة ليست ممكنة ولا مقبولة الآن وإلا فقدت الدولة كل مصداقيتها فى المجال الاقتصادى، كما انها قرارات فى حد ذاتها سليمة وضرورية ويجب البناء عليها. ولكن الاكتفاء بهذه الخطوة وبالحديث عن آثارها الإيجابية على الموازنة والعجز والتصنيف الائتمانى ليس كافيا، بل يجب ان تبدأ الدولة فورا فى تطبيق برنامج متكامل للحماية الاجتماعية يتضمن العناصر المشار اليها أعلاه (الكروت الذكية، الدعم النقدى، معاش ذوى الإعاقة وكبار السن، ودعم وسائل النقل العام). وان لم تكن الحكومة مستعدة لذلك فيمكنها على الأقل ان تعلن عن هذا البرنامج تفصيليا وتلتزم بجدوله الزمنى ولو تأخر قليلا.
والاهم من ذلك الا نعود إلى فلسفة منح الفقراء وذوى الدخول المحدودة هدايا ومسكنات ومنح مؤقتة مع دخول الأعياد أو مع اقتراب الانتخابات، بل ان ننتهز الفرصة لكى نرسخ مبدأ ان الحماية الاجتماعية حق لا منحة، وان هذه الحماية لا تكون الا لمن يستحقها.