تصادف أننى كنت فى رحلة إلى إنجلترا عندما كانت تجرى الدورة الأوليمبية الأخيرة فى لندن. لست من عشاق أى نوع من الرياضة، ولكن كيف كان من الممكن أن أتجاهل كل هذا الذى يحدث فى لندن فى ذلك الوقت؟ آلاف اللاعبين من مختلف أنحاء العالم يتوافدون إلى المدينة، وعشرات الآلاف من السياح يجيئون إلى لندن بسببها، ووسائل الإعلام لا يشغلها شىء إلا فوز هذا وهزيمة ذاك..الخ. وحتى بصرف النظر عن متابعة المباريات نفسها، كيف يمكن التغاضى عن حفلة الافتتاح وحفلة الختام، اللتين تحاول كل دولة مضيفة للأوليمبياد أن تتفوق فيهما على الدول السابقة عليها، فتظهر أفضل ما عندها من فن وخيال، وتوجه أيضا خلالهما ما تريد أن تقوله للعالم؟

كنت قد رأيت على شاشة التليفزيون منذ أربع سنوات حفلتى الافتتاح والختام الرائعتين فى بكين، فكانتا بمثابة خطاب موجه من الصين إلى العالم أجمع تعلن فيهما عن وجود الصين القوى فى العالم، ومدى ما حققته من تقدم تكنولوجى واقتصادى، وقدرتها على تعبئة الأعداد الهائلة من الصينيين للقيام بأعمال تتطلب درجة فائقة من النظام والانضباط، وكأنها تقول للغرب: «انظروا قدرتنا على تعبئة الناس للحرب، إذا فكرتم فى مهاجمتنا!».

فى هذا الشهر شاهدت وسمعت ما يريد البريطانيون أن يقولوه للعالم. ففى حفلة الافتتاح قدم البريطانيون عروضا تمثل انجازاتهم عبر التاريخ فى مختلف ميادين الحياة، من شكسبير، إلى الثورة الصناعية، وحتى فرقة البتلز (الخنافس) الغنائية، كما تفاخر فيها بريطانيا بفتح أبوابها للمهاجرين من مختلف الألوان والأجناس، والسماح لهم بالتجنس بجنسيتها، وها هم الآن يشاركون فى المباريات كبريطانيين ويجلبون الفخر لأنفسهم ولوطنهم الجديد. وظلت وسائل الإعلام البريطانية تفاخر بما أصبح عليه المجتمع البريطانى من تنوع من الأجناس والألوان، فالصومال الأسود الذى جاء إلى بريطانيا فى طفولة وتجنس بجنسيتها، فاز بميدالية ذهبية فى سباق الجرى، والهندية أو الباكستانية السمراء التى جاءت عائلتها إلى بريطانيا قبل أن تولد، أحرزت بدورها ميدالية ذهبية فى مسابقة الجرى والقفز...الخ والجميع يصفقون لهذا ولتلك دون تمييز بين البريطانى الأبيض والأسود والأسمر، كلهم الآن مواطنون يحملون الولاء لبريطانيا.

كان مما يبهج النفس أيضا هذا الاشتراك الكثيف للنساء فى مختلف أنواع المباريات، مما يتطلب شهورا وسنين من التدريب والصبر، للوصول إلى هذه الدرجة العالية من الاتقان، ودرجة عالية من قوة العزيمة والثقة بالنفس، والتخلص من ذلك الشعور بالانكسار وبالنقص فى مواجهة الرجال. كان ظهور فتاة سعودية محجبة لأول مرة فى أى دورة أوليمبية، مثيرا للتقدير والسرور، حتى وان لم يستمر اشتراكها أكثر من لحظات قليلة، ولكنها كانت بهذا الظهور القصير تعلن للعالم عن عزم المرأة السعودية على الخروج للعالم وإثبات وجودها.

كان السرور لكل هذا طبيعيا ومفهوما. ولكن شيئا واحدا لم استطع تجاهله، ولابد أن يثير التساؤل عن طبيعة العالم الجديد الذى نسير نحوه شيئا فشيئا ولا نلتفت إلى خطورته بالدرجة الواجبة.

الذى أقصده هو وجود نوع من الهسيتريا فيما يعبر عنه المتفرجون فى المباريات، وكثير من المتسابقين بعد انتهائها، وفى طريقة وسائل الإعلام فى التعبير عما يحدث خلال المباريات ومن نتائجها.

الفائز فى مباراة بسيطة، ليست فى نهاية الأمر إلا لعبة من الألعاب، يستقبله الناس ووسائل الإعلام استقبال القادة الفاتحين، أو الزعماء العظام، مع أن مهاراتهم لا تتجاوز (إذا تكلمنا بصراحة) القدرة على الامساك بمضرب وتوجيه الكرة توجيها صحيحا، أو سرعة الاستجابة لضربات الخصم، أو للجرى مسافات أطول مما يستطيع غيرهم...الخ نعم، المهارة موجودة، وتنطوى على بعض الصفات النفسية الطيبة.. ولكن هل يستحق هذا كل هذا الحماس؟

رأيت الصفحات الأولى فى أكثر الصحف البريطانية رصانة، تملؤها يوميا صور بريطانى أو بريطانية فازا فى اليوم السابق بميدالية أو أخرى، وقد اعتلت وجه الفائز أو الفائزة تعبيرات عبر مشاعر تتجاوز الفرح وتقترب من الهسيتريا. رأيت وجه الفتاة الصينية وهى تبكى بحرقة غير عادية لأنها لم تفز بالميدالية الذهبية بل فازت فقط بالفضية. ورأيت المذيعة البريطانية الشهيرة وهى تخاطب هذا الفائز البريطانى أو ذاك فى أعقاب فوزه، فإذا بابتسامة عريضة لا تفارق وجهها، دون أن تسمح لنفسها بأن ترتاح لحظة واحدة من رسم هذه الابتسامة الدائمة على وجهها. والمحافظة على الفرح المستمر تتطلب توجيه أسئلة من نوع معين تستدر من البطل الفائز إجابات معينة. ومن ثم تستمر الكليشيهات فى الكلام والتعبير على شاشة التليفزيون، مثلما هى مستمرة على صفحات الجرائد. وإذ يخجل بعض المحررين من الاسترسال فى التعبير عن الحماسة الوطنية، يحاول التخفيف من العبارات المختارة لتبدو طبيعية أكثر، ولكن هناك جدالا يمكن تجاوزه فى هذا التخفيف.

لابد أن يلفت النظر أيضا، فى غمار هذه الدرجة من الحماس، هذا الاجتماع المدهش بين درجة عالية من العولمة ودرجة عالية من التعصب القومى. كنا نظن أن هذا الاختلاط الهائل بين الأجناس والأديان والقوميات، الذى جلبته قوى العولمة، سوف يقضى شيئا فشيئا على التعصب بمختلف أنواعه، ولكننا نرى دلائل على عكس هذا بالضبط. عولمة أكبر تختلط بتعصب قومى أشد. هل العولمة إذن هى فقط فى الاقتصاد؟ وليس لها من هدف إلا السماح للعمل الرخيص بالهجرة إلى بلاد العمل المرتفع الثمن؟ أو فتح أسواق جديدة أمام الصادرات، دون أن يقترن هذا بدرجة أعلى من التفاهم  والتسامح؟

ثم قرأت خبرا مذهلا عن فتاتين بريطانيتين، إحداهما يفصح لون بشرتها عن أصل غير إنجليزى، ولكن كلا منهما فازت بميدالية ذهبية. فماذا حدث؟ هرولت إليهما شركات الإعلان واتفقت معهما على استخدام اسميهما وصورهما فى الدعاية مقابل مبلغ لكل منهما، يتراوح بين مليون وثلاثة ملايين جنيه استرلينى فى العام الواحد.

هل لهذا علاقة وثيقة بدرجة الهستيريا أو التعصب؟ ربما، ولكن المؤكد أن وراء هذا كله: الهستيريا والتعصب وهرولة شركات الإعلان، وحصول اللاعبين على هذه الأرقام المذهلة من الأرباح، شىء واحد، هو أننا نعيش «عصر الجماهير الغفيرة».

هذه المباريات لا تجرى أمام عشرات أو مئات الأشخاص، بل أمام ملايين. المشاهدون الحاضرون فى الاستاد الكبير أكثر من ثمانين ألف شخص. والمتفرجون من خلال شاشة التليفزيون يزيدون على ألف مليون شخص، (أى نحو سبع سكان الكرة الأرضية). وهذا وحده يفسر لنا كل شىء (أو تقريبا كل شىء). عندما تعبر عن فرحك أمام ملايين الناس فلابد أن تبالغ فى التعبير عن الفرح، وربما عليك أن تقفز إلى مسافة أعلى فى الهواء. وإذا بكيت تأثرا بالفوز أو الهزيمة، فلابد أن تبكى بحرقة أكبر. وإذا كان عدد المشاهدين كبيرا، لابد أن يصيب الهوس والهستيريا المذيعين الذين ينقلون أخبار المباريات أو يحاورون المتبارين. فإذا كان المذيع بطبعه هادئا أو باردا فلابد أن يستبدل به شخص أكثر حماسا. وكذلك يصيب الهوس الصحف التى تتكلم عن المتسابقين. وإذا كان الأمر كذلك فشركات الإعلان لا تجد بأسا فى إنفاق ما بين مليون وثلاثة ملايين جنيه استرلينى فى السنة على إحدى الفائزات، ولا تجد الحكومة البريطانية غضاضة فى إنفاق أكثر من تسعة آلاف مليون جنيه استرلينى على الاستعدادات اللازمة للدورة الأوليمبية...الخ.

•••

كنت قد عشت فى لندن بضع سنوات أثناء دراستى العليا فى جامعتها. ولكن هذا كان منذ أكثر من خمسين عاما، أى فى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. وقبل أن تدخل بريطانيا أو غيرها «عصر الجماهير الغفيرة» بالدرجة التى نراها الآن. لقد لفت نظرنا فى تلك الأيام نشوء ظاهرة البيتلز (أو الخنافس)، ولكن هذه كانت بمثابة بروفة متواضعة جدا وبدائية للغاية لما نراه اليوم. كان بضع مئات من الفتيات والفتيان صغيرى السن يتجمعون فى إحدى صالات الغناء أثناء غناء فرقة البيتلز، فيقف المتفرجون وهم يتصايحون أثناء الغناء ويحركون اذرعتهم يمينا ويسارا، للتعبير عن السرور والاعجاب. أين هذا مما نراه الان من حالة الهستيريا فى المدرجات الرياضية، وعلى شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد..؟ السبب طبعا واحد، وهو نمو ظاهرة الجماهير الغفيرة.

هل كان هذا مكسبا أم خسارة للحضارة الغربية؟ فى كل يوم تأتينا الحضارة الغربية بمثال جديد يؤكد الحقيقة الآتية: أن كثيرا جدا مما تحققه هذه الحضارة فى الكم يقابله  تدهور فى الكيف. السلع تصل إلى أعداد من الناس لم تكن تصل إليهم، ولكنها أصبحت أقل جودة وأتفه شأنا وأقصر عمرا. الخدمات تصبح أكثر فأكثر فى متناول أيدى الناس، ولكن درجة الاتصال الإنسانى فيها تضعف أكثر فأكثر. الصحف يصل توزيعها إلى عدة ملايين بدلا من الآلاف، ولكنها تعتمد الآن على الإثارة بأخبار الجرائم والفضائح. برامج التليفزيون تستمر طوال 24 ساعة فى اليوم، ولكن البرامج الجادة تختفى لتحل محلها برامج يتطلب فهمها درجة أقل من الذكاء ومن رفاهة الحس. الزعماء والسياسيون يصبحون أكثر شهرة، ولكنهم يستخدمون أساليب أكثر تضليلا. كل شىء يصبح أكثر ديمقراطية من ذى قبل، ولكن الديمقراطية نفسها تتحول أكثر فأكثر إلى أكذوبة. هذه الحقيقة، أى تحول الديمقراطية إلى أكذوبة، هى من الخطورة والأهمية بحيث تحتاج إلى مقال مستقل.