مر أكثر من ستين عاما على قيام ثورة 23 يوليو 1952 التى كنا نعلق عليها آمالا كبيرة فى أن تخلص مصر من مشاكلها الكبرى: الاستعمار والاحتلال، الفقر والجهل والمرض، والظلم الاجتماعى. ولكن ها نحن نرى أحوالنا الآن أبعد ما تكون عن حل هذه المشاكل، بل لقد زاد بعضها تفاقما. مازالت مصر غير مستقلة الإرادة، ومازال الفقر شديدا، والأمية منتشرة، وقد يعتبر البعض أن الظلم الاجتماعى فى مصر الآن أشد مما كان فى العهد الملكى.
كنت دائما (ولا أزال) أميل إلى تعليق أكبر قدر من المسئولية عن هذا الفشل على استمرار تبعيتنا لقوى خارجية. طبعا أخطاؤنا نحن كثيرة، ولكن مهما كانت جسامة الأخطاء التى ارتكبها هذا الزعيم أو ذاك، هذا الرئيس أو غيره، فإنى أعتبر هذه الأخطاء هينة جدا بالمقارنة بآثار الخضوع للسيطرة الأجنبية، التى لم يكن من السهل أبدا لهذا الزعيم أو ذلك الرئيس التخلص منها فى ظل ظروف دولية شديدة القسوة.
كنت (ولا أزال) أعتبر أن العصر الذى عاشته مصر منذ ثورة 1952 يمكن تسميته بـ«العصر الأمريكى»، حيث خضعت بلاد العالم الفقيرة (أو ما سمى بالعالم الثالث)، بل وبعض الدول الصناعية المتقدمة أيضا، لنفوذ إحدى القوتين العظميين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى.
وكانت معظم الدول العربية من نصيب الولايات المتحدة. كان هذا العصر الأمريكى مختلفا فى أمور كثيرة مهمة عن عصر الاستعمار البريطانى والفرنسى، ومن ثم أصبحت أحوال مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين مختلفة أيضا، فى أمور كثيرة مهمة عما كانت عليه أحوال مصر فى النصف الأول من القرن.
ولكن لاحظت أيضا (كما لاحظ غيرى) دلائل كثيرة قوية على ان العصر الأمريكى آخذ فى الأفول، بسبب ما طرأ من تغيرات على المراكز النسبية للقوى الكبرى خلال السبعين عاما التى انقضت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لا أخفى على القارئ أنى علقت (ولا أزال أعلق) بعض الآمال على هذا الأفول. فقراءتى للتاريخ المصرى خلال القرنين الماضيين تؤكد ان مصر تكون فى أفضل أحوالها فى الفترات التى لا تتفوق فيها دولة كبرى بدرجة ملحوظة على الدول الكبرى الأخرى المنافسة لها.
ففى هذه الفترات تسترد مصر جزءا كبيرا من الإرادة المسلوبة، ومن ثم تشرع فى حل مشاكلها المؤجلة. والمدهش انه مهما كانت أخطاء الزعماء المصريين جسيمة فى تلك الفترات، فإن التقدم الذى تحرزه مصر خلالها فى مختلف المجالات، يكون رائعا، بمجرد أن تستعيد مصر إرادتها المستقلة.
●●●
شرعت منذ أسابيع قليلة فى كتابة بعض المقالات التى أعبر فيها عن هذه الأفكار. وأرسلت المقال الأول إلى هذه الجريدة، وكان بعنوان «ماذا فعل بنا العصر الأمريكى؟» فى صباح يوم الأربعاء 14 أغسطس قبل أن أسمع عما جرى فى مصر من فض اعتصامات رابعة العدوية وميدان النهظة. ونشر المقال بالفعل بعد ثلاثة أيام (17/8)، ولكن بدا لى موضوع المقال عندما قرأته منشورا (رغم اعتقادى بأهميته) بعيدا كل البعد عما يجرى فى مصر من أحداث. كان لابد أن أضع بقية المقالات عن العصر الأمريكى جانبا وأواجه مباشرة ما يجرى من أحداث مأساوية كل يوم.
●●●
قبيل أحداث فض الاعتصامات فى 14/8، كنت أتمنى أن يحدث هذا الفض اليوم قبل الغد، بل وكنت استغرب تأجيل القيام بفض الاعتصام يوما بعد آخر مع زيادة أعداد المعتصمين وزيادة تحصيناتهم، ليس فقط بالأسوار الحجرية والرملية، بل وبالأسلحة. كنا فى رمضان وجاءت أيام العيد، ثم مضى يوم بعد آخر بعد انتهاء العيد، وبدأت اتساءل عما إذا كانت هناك نية حقيقية لفض الاعتصام.
ثم فرحت فرحا حقيقيا بالقيام بفضه، وبالقوة، رغم حزنى بالطبعة على القتلى والجرحى. لم يبد لى أن هناك أى وسيلة لفض الاعتصام غير القوة، فى ظل ما سمعناه وقرأناه وتصورناه عن موقف جماعة الإخوان من النظام الجديد الذى قام بعزل رئيس الجمهورية المنتمى لهذه الجماعة.
اختلفت الآراء بعد ذلك عما إذا كان قد حدث استخدام غير مبرر لقوة زائدة على الحد فى فض الاعتصامات، ولكن هل لدينا حقا معلومات كافية عما حدث بالضبط؟ وعمن بدأ بإطلاق النار ومن قام بالرد عليه؟ وأى الأسلحة استخدمت أولا وأى الأسلحة استخدمت فى مقاومتها؟ فى غياب هذه المعلومات القاطعة وتضارب الشهادات، مازلت عند اعتقادى بأن فضّ الاعتصامات كان ضروريا، وان استخدام القوة لم يكن له بديل فى الظروف التى تم فيها. ولكن أملنا فى أن ينتهى الأمر عند هذا الحد لم يتحقق، كما نعرف جميعا الآن.
ففى كل يوم منذ 14 أغسطس يستيقظ المصريون على خبر جديد عن دماء جديدة لأبرياء قتلوا أو جرحوا دون وجه حق، سواء فى سيناء أو شوارع وميادين المدن الكبرى والصغرى. والأبرياء القتلى والجرحى من المسلمين والأقباط، من المدنيين ومن رجال الشرطة.
بعض مرتكبى هذه الجرائم يتم القبض عليه ولكن أغلبهم يهربون. وبعضهم يرتكب الجرائم وهم ملثمون لا نعرف حقيقة انتمائهم ولا دوافعهم. سقوط بعض القتلى والجرحى قد يكون له سبب مباشر وواضح، كفض اعتصام أو مقاومة فض الاعتصام، وبعضها قد يكون انتقاما لحادث سابق له سبب واضح، ولكن الغالبية العظمى من الاعتداءات ليس لها سبب مباشر واضح، ولا يكفى فيها القول بأنها انتقام من حادث سابق.
فقليل جدا من أحداث الاعتداء ما يعلن القائم به أنه يقصد الانتقام من هذا الحادث أو ذاك (كما فى معظم أحداث الاعتداء فى سيناء أو على الكنائس) ولا يبدو أن هناك أى مكسب واضح يحققه المعتدى لقضيته من وراء ارتكاب هذا الاعتداء (أيا كانت هذه القضية).
وأحداث القتل تتسارع بدرجة مذهلة وكان هناك من لا يريد أن يترك لنا لحظة واحدة لالتقاط الأنفاس، أو كأنه يريد أن تصل المأساة إلى نقطة معينة يسهل بعدها توجيه الاتهام أو الزعم بأن الحالة لم تعد تحتمل، وأنه لابد من التدخل أو فرض عقوبات.. إلخ.
ثم ما كل هذا النشاط المذهل الذى ظهر فجأة على القوى الدولية إزاء ما يحدث فى مصر؟ هل يعقل حقا ان نفسر كل هذه الجولات والزيارات والتصريحات من هذه القوى الدولية بالقلق على ما يحدث لحقوق الإنسان أو للديمقراطية؟ ألم نشهد من ممثلى هذه القوى، فى تاريخها الطويل، ما يكفى للتدليل على ما يتمتعون به من قدرة فائقة على النفاق والتنكر للديمقراطية وحقوق الإنسان عندما يكون هذا فى صالحهم؟ ما الذى يريدونه بالضبط؟ وما هو هذا الغرام المفاجئ بجماعة دينية كان من السهل عليهم جدا أن يصنفوها على أنها جماعة إرهابية؟
مرة أخرى أعود إلى ما بدأت به. مهما كانت أخطاؤنا نحن، وهى جسيمة (بل هى جسيمة بالضرورة فى ظل الظروف التى توضع فيها) فإن الأسباب الحقيقية للمحنة المصرية الحالية، كما كان الحال مع محن سابقة كثيرة، ليست أسبابا داخلية.