على الرغم من أن الجرائد الصباحية تحمل لنا فى كل يوم خبرا أغرب من الأخبار التى حملتها لنا فى اليوم السابق، ما زلت أشعر فى كل صباح قدرة مصر، فى هذا العصر، على توليد كل هذه الأخبار المفزعة. لم أستطع مثلا أن أصدق ما نشرته الصحف منذ أيام عن اختفاء طبيب مصرى شاب، هو أيضا مدرس مساعد فى كلية طب قصر العينى، بمجرد توديعه لزوجته وطفليه مطار القاهرة، وعبوره الباب المؤدى إلى منطقة انتظار السفر، انتظرت زوجته مكالمة منه قبل أن يستقل الطائرة فلم يفعل. حاولت مكالمته فوجدت تليفونه مغلقا. واستمر الغموض يحيط به، ولا يعرف أحد مكانه لمدة 30 ساعة (وقيل 36 ساعة) أى يوما ونصف، حتى عرفنا أن مباحث أمن الدولة (أو هيئة لها اسم مشابه) قد قادته من المطار، وهو معصوب العينين، بعد أن استولت على تليفونه المحمول، وأخذته فى سيارة معتمة النوافذ، إلى مكان مجهول، حيث جرى استجوابه حول نشاطه فى تأييد محمد البرادعى فى حملته من أجل انتخابات نظيفة فى مصر.
الذى يزيد من بشاعة الحادث، أن الرجل كان ذاهبا إلى لندن لتأدية امتحان شهادة الزمالة البريطانية. أى أن الرجل، فضلا عن حسِّه الوطنى العالى الذى جعله يشعر بأن من واجبه العمل من أجل نظام ديمقراطى فى مصر، هو أيضا عالم شاب ممن يمكن أن تعلق عليه مصر آمالا كبيرة فى تحقيق النهضة.
مختلف الخواطر مرّت بذهنى لدى قراءة هذا الخبر الفظيع والمدهش. ولكن فى نفس اليوم قرأت فى الصحف خبر موافقة مجلس جامعة القاهرة على منح السيدة سوزان مبارك، زوجة رئيس الجمهورية، درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا لما قدمته من خدمات للمجتمع والثقافة.
خطر لى السؤال عما إذا كان قد خطر لرئيس جامعة القاهرة، أثناء تفكيره فى ترتيب الاستعدادات اللازمة لاستقبال قرينة الرئيس، ما عليه أن يصنع لانقاذ مدرس فى كلية الطب التابعة له، من تصرفات ظالمة وقهر يمارسه رجال الأمن ضده. هل خطر لرئيس الجامعة أن مسئوليته فى الدفاع عن كرامة رجاله فى الجامعة أهم من مسئوليته عن ترتيب مراسم استقبال شخصية رسمية؟
ثم خطر لى التساؤل عما إذا كانت قرينة الرئيس قد سمعت بما حدث لشاب يدرس بنفس الجامعة التى ستتسلم منها الشهادة الفخرية؟.. وله يا ترى، إذا كانت قد سمعت الحادث حاولت أن تربط بين هذا الحادث وبين حصولها على الجائزة؟.. هل هذا يتعارض مع ذاك؟.. وهل يجوز لها أن تقبل التكريم من رئيس لجامعة لا يقوم بواجباته نحو رجال جامعته؟.. وإذا كانت الشهادة الفخرية التى ستحصل عليها هى جزاء لخدمات قدمتها ومن شأنها المساهمة فى خدمة العلم والثقافة والمجتمع، فهل الذى حدث فى نفس اليوم لأستاذ الجامعة من شأنه أن يساهم فى خدمة العلم والثقافة والمجتمع؟.. وهل هناك علاقة بين هذا الحماس الشديد الذى أبداه رجال الأمن فى القبض على مدرس الجامعة واستجوابه، وقلقهم الشديد من أى عمل قد يساعد الدكتور البرادعى فى عمله من أجل الديمقراطية، هل هناك علاقة بين هذا وبين ما يجرى على قدم وساق لتسهيل وصول نجل الرئيس لمنصب رئيس الجمهورية؟.. وهل هذا العمل لتسهيل هذا التوريث من شأنه أيضا أن يساهم فى خدمة الثقافة والعلم والمجتمع....إلخ؟
الأرجح أن قرينة الرئىس لم يخطر ببالها أى من هذه الخواطر (بل ولا خطرت ببال رئيس الجامعة)، إذ من شبه المؤكد (فى اعتقادى) أن ما تنشره جرائد المعارضة لا يصل إلى أحد من أفراد أسرة رئيس الجمهورية. فالأرجح أن هناك سياجا منيعا قد فرض حول الأسرة الحاكمة، ليس فقط منعا لتعكير الدم وتكدير الصفو، بل، والأهم من ذلك، حماية للمستفيدين الحقيقيين من مخطط التوريث، من خارج أسرة الرئيس. فأنا بصراحة أشك بشدة فى أن أسرة الرئىس يمكن أن تحقق أى نفع، لا فى المدى القصير ولا الطويل، من نجاح مخطط التوريث، وإن كان المستفيدون الحقيقيون فى ذلك المخطط قد أقنعوا الأسرة بضرورته. هذا الحصار المفروض على الأسرة الحاكمة لابد أن أدى أيضا إلى تصور الأسرة أن أشياء من نوع حصول قرينة الرئيس على شهادة فخرية من جامعة القاهرة، يمكن أن يزيدها شرفا ويعلى من مقامها فى نظر المصريين أو العالم.
الخلاصة إذن أن نفس الأشخاص الذين قبضوا على الدكتور شادى الغزالى، ومنعوه من السفر إلى لندن لاستكمال تقدمه العلمى، الذى يمكن أن ينفع به نفسه ووطنه، وشغلوه بدلا من ذلك بالاستجواب عما يعرفه عن محمد البرادعى، نفس هؤلاء الأشخاص (أو أشخاص وثيقو الصلة وشبيهون جدا بهم) هم الذين فكروا فى منح السيدة سوزان مبارك الدكتوراه الفخرية ورتّبوا له. هؤلاء المشغولون بالأمن ومنح الدكتوراه الفخرية، يقولون إن منح الجائزة للسيدة سوزان مبارك قد تم وفقا لكل اللوائح الجامعية، وأن كون السيدة سوزان هى أيضا قرينة الرئيس، لا علاقة له بمنحها الجائزة. وكأن الأمر من قبيل المصادفة البحتة أن كانت السيدة سوزان التى حصلت على الدكتوارة الفخرية هى نفسها سيدة مصر الأولى. وهو قول شبيه جدا بالقول بأن جمال مبارك، رئيس لجنة السياسات، من حقه كأى شاب أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، وأن ترشيحه للرئاسة لا علاقة له بكونه ابن الرئيس...إلخ،
ترى أى شىء مدهش آخر يمكن أن تحمله لنا صحف الغد؟