لكل شعب أسطورته، الحدوتة التى يحكيها لنفسه، عن نفسه ــ كدت أقول كالطفل يسأل عن أصله، وعن تاريخه، بس فى الحقيقة كلنا نسأل عن قصتنا، نظل ننظر وراءنا؛ نحاول أن نُكَوِّن صورة عن أنفسنا، لا يعوقنا مرور السنين وتراكم الأيام، لا يعوقنا ابتعادنا عن البدايات، نظل نرى فيها تفسيرات لما نحن عليه، وإضاءات على ما يمكن أن نكون عليه.
لكل شعب أسطورة نشأته، أما عن شعب مصر فيُحكى أن، زمان جدا، جدا، بل فى بدايات الزمان، كان أول حاكم لمصر هو «أوزير»، وكان حاكما صالحا محبوبا، عنده علوم الشمس والنهر والطين، يُعَلِّم الناس فنون الزراعة وأسرار الحيوان والطير، وكان متزوجا من الحبيبة إلى قلبه، إيزا، (وقال الإغريق «إيزيس») سيدة السحر والبيت. وكان لأوزير أخ شقيق هو «شَيْط»، غار منه ومن محبة الناس له، فدبر له المكيدة وراء الأخرى إلى أن نجح فى قتله. قطَّع شيط جسد أخيه أوزير إلى أربع عشرة قطعة ونثرها فى أرجاء مصر. وحين غاب أوزير ولم يعد إلى بيته خرجت إيزا تجوب البلاد بحثا عنه. مرَّت فى رحلة الآلام هذى على كل سهل وكل هضبة وكل ركن فى الوادى، تُجَمِّع الأشلاء. كانت تبحث عن زوجها وهى تبكى فصارت دموعها فيضان النيل. تبحث عنه وهى تنتحب فصار نحيبها أغانى الفراق والشوق والعديد. فى صبر وحزن وأمل ودأب جمعت إيزا اثنى عشر جزءا من أشلاء زوجها، وتبقى الرأس والعضو الذكرى. فأما العضو فعلمت أنه قُذِف فى النيل وابتلعته سمكة سلور، فصنعت له بديلا من المرمر ــ وفى قول آخر من الذهب. وأما الرأس فكان آخر ما وجدته وكان مدفونا فى الرمال فى منطقة فى وسط مصر تماما يقال لها «أبُوجَة» قال لها الإغريق «أبيدوس» ثم العرب «أبوتيج». وفى أبوجة استعانت إيزيس بما تعرفه من فنون الطب فلملمت أشلاء زوجها، وضمدتها بضمادات من الكتان المصرى، واستعانت بما تعرفه من السحر فأخذت شكل الصقر(ة) ترفرف فوقه، واستعانت بما تستشعره من الحب فحملت منه وأتت بابنهما «حِرُو» ــ وقال الإغريق «حورس».
نزل أوزير إلى باطن الأرض وامتزج بها، وكما كان فى حياته فوق الأرض معلما للفلاح، صار فى حياته تحت الأرض متواطئا معه وصار طاقة للخصوبة، يستجيب ترابه لدموع إيزا فتُخرج الأرض السمراء للناس خيراتها من قمح وشعير وقطن وكتان.
وسيطر شيط على البلاد وكان منصرفا إلى اللهو والصيد والاقتناء، واستبد بالمصريين، فساءت أمور الناس وانتشر الظلم والكذب والعنف والاستغلال. أما إيزا فضمت ابنها إليها، واختبأت به فى أحراش الدلتا، تخاف عليه من عمه ورجاله، وترقب عن بعد أمور البلاد. وعلمت إيزا ابنها، وأرضعته إرثه من حب بلاده ومن حكاية أبيه مع عمه، وكان لحِرُو أن يتخذ هيئة الصقر من حين لآخر فيطير ويتفقد شئون البلاد ويتعلم.
وحين شب حرو، خرج إلى المدن وإلى تجمعات الناس، وهالته أحوال البلاد فانطلق يثور على شيط ويطالب بإرثه، بحقه فى حكم مصر وإصلاحها، وأمه إيزا من ورائه، تبسط عليه أجنحة دعائها، تشجعه وتسانده ويرتجف قلبها خوفا عليه. ودخل حرو وشيط فى صراع جبار، صراع دام سنين ويقال عقود وطحن أرض مصر طحنا، وكان شيط يظن أنه قتل حرو فيفاجأ به يظهر ثانية؛ حرو ابن إيزا وأوزير دائم التجدد، يُقتل فيقوم. ويتمكن حرو من شيط ويهم بقتله فتمنعه إيزا: ليس هذا هو الحل فشيط عمك على كل حال. أما شيط، فحين لا يستطيع أن يقتل حرو يقتلع إحدى عينيه. وتصبح «عين حرو» رمزا للبصيرة النافذة وسدا منيعا أمام الحسد، يرسمها أبناء بلاده على مركباتهم ويرتدونها منقوشة على الحلى لآلاف السنين.
يدرك الكل أن العنف لن يستطيع حل المشكلة، ويملّ أهل البلاد؛ فيلجأ المتقاتلان إلى القضاء: يَمثُل حرو وشيط أمام مجمع الحكماء. حرو له حق واضح فى حكم البلاد، فهو ابن أوزير، فلاح مصر، وإيزا ملهمة فيضان نيلها، وهو عاشق للبلاد، يعرفها حق المعرفة ولا يريد من الحياة سوى أن يفعل الخير لها، وهو شاب لماح مبدع مُحَلِّق مُتَنَبِّه القلب. أما شيط فقد أجرم فى حق أخيه وفى حق مصر، لكنه مصرى وعم حرو، وهو قوى وله أتباع، ظبَّط نفسه جيدا بشبكة واسعة منهم أثناء سنين حكمه.
تداول الحكماء فى ذلك اليوم البعيد، السحيق البعد، الذى حكت عنه جداتنا عبر سبعة آلاف عام على الأقل، وكان هناك رأى بدا أسهل الحلول: نقسم البلد نصين؛ يحكم حرو دلتا مصر، ويأخذ شيط صعيدها. كادوا يعلنون الحكم ــ لولا إصرار واحد من الحكماء رأى فيه غبنا لحرو وظلما للصعيد، ورأى التقسيم حاثا على استدامة العداوة والصراع، وكان بليغا مقنعا فاستمال الآخرين وعادوا إلى التداول.
وكان الحكم النافذ الذى أعلنه المجمع وتقبله الخصمان وهلل له الناس: حُكم بلاد مصر كلها لحِرُو، فهو صاحب الحق، وهو العارف بمصلحة البلاد ومستقبلها، وهو المحبوب من الناس، والمحلق بهم والمُطلِق لإبداعهم. وأما شيط، وهو القوة والجبروت، الواجب تلجيمه وترشيده وإبعاده عن الناس، فينوط المجلس إليه بمهمة محورية الخطورة، بدون الأداء المتميز والدائم والمتكرر لها لن تستقيم أمور البلاد أبدا: فمركبة الشمس كل يوم تشرق ثم تغرب، وفى رحلتها عبر صحن السماء تشع الشمس بالدفء والنور والخير على أرض مصر . لكنها، من شروقها إلى غروبها مهددة: تنين أبيب القوى يتربص بها، يقضم منها، ينتوى ابتلاعها؛ وعلى شيط وأتباعه استعمال كل ما أوتوا به من القوة والدهاء والجبروت والشجاعة لحماية مركبة الشمس من التنين وتأمين مرورها يوميا من أقصى الأرض إلى أقصاها. مصر هى الطين والنهر وشمس النهار، لا حياة للمصريين فى غياب أى منها، فليخصب أوزير الطين، ولتملأ إيزا النهر، وليؤمن شيط الشمس، ولينعم المصريون بقيادة حرو المصرى الشاب المبدع الفاعل المحلق المتجدد دائما.
حكاية قديمة. نحكيها لأنفسنا ولبعضنا عبر ملايين الملايين من الأيام والليالى، فى هذا الموقع المتميز الجميل من كوكبنا المتميز الجميل. فيها مُلك يغتصب، وزوج حنون طيب، وزوجة وفية معطاءة، وشهيد يصير مصدر خير متجدد للبلاد، وأم مربية حامية دافعة شجاعة، وابن محب نبيل، وشباب يطير ويغضب ويثور ويتجدد، وعيون تقتلع، وتنين أبيب المتحفز، وإيمان بالحكمة والقانون، وقضاء عادل مبتكِر، ورفض الفرقة والانقسام، وعم باطش يعود إلى صوابه، ونموذج يُطرح فينتج خيرا للجميع، وأرض تفلح ونيل يفيض وشمس تشرق. حكاية مصرية، نحكيها تانى بمناسبة ٢٥ يناير، ويا رب كل سنة ومصر بخير.