مع كل ذكرى لثورة 25 يناير، تُدبج مؤسسات الدولة المختلفة فى خطاباتها الرسمية عبارات الثناء والمديح لـ«الثورة المجيدة وأهدافها النبيلة "، أما فى الأحاديث المرتجلة فيتم قصف تلك الثورة وتقديمها باعتبارها «مؤامرة تسببت فى خراب مؤسسات يلزم لترميمها عقود»، أو «فتنة سعت إلى إحداث وقيعة بين مكونات الدولة بهدف إسقاطها»، ويتم تحميلها مسئولية أى فشل أو تعثر تعجز الحكومة عن تفسيره أو تحمل تبعاته، بدءا من انهيار الإعلام وصولا إلى ما يجرى فى ملف سد النهضة.
عادة ما يعقب الحديث عن «المؤامرة» أو «الفتنة» التى جرت وتسعى السلطة إلى لملمة «آثارها المدمرة» ــ التحذير من تكرارها، وتخويف الناس من أى حراك، بدعوى الحفاظ على الدولة واستقرارها، وعلى الإنجازات التى تحققت خلال السنوات الأخيرة.
يظن هؤلاء أن شيطنة 25 يناير وترهيب المواطنين من مجرد تذكير السلطة بأهدافها، سيدفعهم إلى نسيان المطالب التى نزلوا من أجلها والتى لخصها شعار «كرامة وحرية وعدالة اجتماعية»، يظنون أيضا أن الجرعة المصنوعة التى تقدمها وسائل الإعلام عن الإنشاءات والطرق والكبارى والتوسعات العمرانية، قد تقنع المواطن بدفن حقوقه الأخرى التى بح صوته فى المطالبة بها قبل 9 سنوات.
بالأرقام حقق نظام الرئيس «المخلوع» مبارك، توسعات عمرانية لم يسبقه إليها نظام آخر فى تاريخ مصر الحديثة، فمعظم المدن الجديدة بدءا من 6 أكتوبر وبرج العرب والقاهرة الجديدة والشيخ زايد وصولا إلى بنى سويف الجديدة وغيرها أنجزت فى عهده، فضلا عن إنشاء شبكة من الطرق والكبارى غطت مصر من أقصاها إلى أقصاها.
أما عن المؤشرات الاقتصادية والمالية، فالأرقام تثبت أنها كانت فى حالة تحسن، الناتج الإجمالى المحلى اقترب من 200 مليار دولار، ومعدل النمو تجاوز عامى (2006 و2007) نسبة الـ8%، ثم تراجع على وقع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية إلى 5.1%، وتراوحت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر ما بين 15 ــ 26%.
ظل إعلام «المخلوع» يصدر للناس أن تلك الإنجازات هى رصيد مبارك للاستمرار فى السلطة، وأن عليهم الصبر حتى تتساقط عوائد النمو لتصل إلى الطبقات الأفقر.
الواقع أن تلك الأرقام أو «الإنجازات» لم تشفع لمبارك، فصدور الناس ضاقت من تمسكه بالسلطة، وضاقت أكثر من محاولات تحويل الحكم فى مصر إلى نظام عائلى وراثى.
لم تكن ثورة يناير تمرد على الأوضاع الاقتصادية التى كانت بالقطع أفضل من الآن، لكنها كانت ثورة على تفشى الفساد والاستبداد واحتكار السلطة وتأميم المجال العام والإقصاء وتعامل الشرطة مع الناس.
الشعب الذى خرج فى الشوارع لم يكن مدعوا إلى إسقاط شخص «المخلوع» مبارك والدائرة التى أحاطت به أو بالوريث فى وقت لاحق، بقدر ما كان يبحث فى الميادين عن الدولة التى أراد، فالثورة لم تكن تبحث عن ثأر من الديكتاتور وطغمته الحاكمة بقدر بحثها عن بناء نظام جديد يتكفل بتحقيق أهدافها.
أيقن الشعب بعد عقود من التسلط وتزوير الإرادة أنه لا سبيل للخروج من متاهة التخلف والفقر والمرض والتبعية، إلا بالشروع فى بناء دولة مدنية عصرية، قاعدتها، اختيار الشعب للسلطة التنفيذية ولسلطة التشريع والرقابة عبر انتخابات حرة نزيهة، وضمان استقلال السلطة القضائية ونزاهتها، ووجود إعلام مستقل ينقل له ما يدور فى كواليس مؤسسات الدولة وينقل إلى السلطة آلامه وأوجاعه، ويصبح عن جد السلطة الرابعة التى تراقب للشعب سلطات الدولة الثلاث.
لم تتوقف محاولات إحباط الناس أو تيئيسهم والتلاعب فى عقولهم، وتصوير ما جرى قبل 8 سنوات على أنه أُس الخراب الذى حل على المحروسة والسبب الرئيسى فى متوالية الفشل التى لاحقتنا منذ ذلك الحين، مع ذلك ومع مرور كل ذكرى لـ«25 يناير» تجد الناس أكثر تمسكا بحلمها وأهدافها، وأكثر رفضا ومقاومة للواقع الذى يريد البعض فرضه علينا.
إذا أردتم إقناع الناس بعدم تكرار ما جرى فعليكم تحاشى أسبابه أولا، والسعى لبناء دولة مستقرة تبقى وتستمر دون أن تتأثر بغياب أى حاكم أيا كان إنجازه، الضمانة الوحيدة لكم وللوطن هو الشروع فى تأسيس دولة ديمقراطية مدنية حديثة، دولة يتحرك الناس فيها إذا قرروا تغيير النظام إلى صناديق الانتخابات وليس إلى ميادين الثورة.