قبل بضعة أيام من زيارة الرئيس «فرنسوا هولاند» إلى مصر فى الأسبوع الماضى، اتصل بى السفير الفرنسى لدعوتى إلى لقاء الرئيس مع مجموعة من الكتاب والسياسيين المصريين. وقد وضح السفير فى اتصاله أن الغرض من اللقاء هو تمكين الرئيس الفرنسى من الحوار مع عدد من أصحاب الآراء المستقلة حول الوضع السياسى والاقتصادى وكيفية تنمية العلاقات بين البلدين. وقد لفت نظرى أن السفير المخضرم «أندريه باران» حرص على دعوة مجموعة تمثل تنوعا فى الآراء والمواقف، حرصا ربما على ألا يقتصر اللقاء على اتجاه سياسى أو فكرى معين.
اللقاء استغرق نحو الساعة وحضره كل من وزيرة الثقافة ومدير المعهد العربى بباريس وعدد من أعضاء البرلمان. وقد تطرق الحوار إلى الوضع الراهن فى مصر والتحديات السياسية والاقتصادية والثقافية التى تواجه البلد وسبل التعاون مع فرنسا لمجابهتها. ومن جانبى فقد ركزت على ضرورة تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وعبرت عن تحفظى على أن الزيارة لم تقدم جديدا فى أكثر موضوعين تحتاجهما مصر فى الوقت الراهن، وهما استعادة السياحة الفرنسية وزيادة الاستثمار الأجنبى فى مجالات تساعد على توفير فرص العمل للشباب. وقد علق الرئيس الفرنسى على ذلك بأنه يعمل بكل جد على تشجيع عودة السياحة الفرنسية ولكن الأمر يتوقف على التقدم الذى تحرزه الدولة المصرية فى تأمين المطارات والمناطق السياحية. أما فيما يتعلق بالاستثمار، فقد أكد أن لقاءه صباح ذات اليوم مع أعضاء غرفة التجارة المصرية الفرنسية كان مثمرا وأنه سوف يعمل على الدفع بهذا الملف فور عودته إلى بلده.
وبخلاف ذلك فقد تطرق باقى الحوار مع الحاضرين إلى التحديات التى تواجه المجتمع المصرى فى مكافحة الإرهاب دون التضحية بالمكتسبات الدستورية وبحقوق الانسان، وإلى الوضع المضطرب فى المنطقة العربية، وإلى التعاون فى مجال التعليم الجامعى. وقد جاءت تعليقات الرئيس الفرنسى معبرة عن التزام فرنسا بالاستمرار فى مساندة مصر فى جهود التنمية الاقتصادية والتصدى للإرهاب وفى بناء مؤسساتها الدستورية.
ثم غادرت منزل السفير فى نهاية اللقاء متصورا أنه قد أسفر عن نقل صورة واقعية إلى الرئيس الفرنسى حول طبيعة التحديات التى تواجه مصر وضرورة تعميق التعاون بين البلدين للتغلب عليها. ولذلك فقد فوجئت بعد أيام قليلة بانتقاد اعلامى شديد لمن حضروا اللقاء، والاتهام لهم بتحريض فرنسا على قطع العلاقات الاقتصادية مع مصر وتخفيض التعاون التجارى ومنع السياحة الفرنسية، بينما الواقع أن الحوار مع الرئيس فى المجال الاقتصادى كان حول تطوير وتشجيع سبل التعاون الاستثمارى وتجاوز أزمة السياحة. أما بالنسبة لما تطرق إليه الحاضرون بشأن الوضع السياسى والمسار الديمقراطى وحقوق الإنسان ــ ولا أنصب نفسى هنا مدافعا عن أى منهم لأن من حقهم التعبير عن مواقفهم بالأسلوب الذى يختارونه ــ فقد كان حوارا صريحا وصادقا، تختلف فيه الآراء والمواقف بين الحاضرين، ولكن لم يكن فيه ما شاع فى وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعى من تحريض على الدولة ولا استقواء بالغرب ولا تآمر على هدم المؤسسات الوطنية.
لماذا إذن استحوذ هذا اللقاء بالذات على هذا القدر من الاهتمام والانتقاد مع أنه كان تحت سمع وبصر الدولة، كما أنه لم يكن اللقاء الوحيد للرئيس الفرنسى الذى اجتمع خلال نفس الزيارة مع كتاب ومثقفين آخرين ومع مستثمرين ومع نواب برلمانيين بجانب لقاءاته الرسمية؟
فى تقديرى أن الإجابة هى أن هذه الحالة «التخوينية» ليست جديدة، بل تنتعش كلما وجدت أجهزة الدولة أنها بحاجة إلى «شماعة» تعلق عليها فشلها فى الإدارة وعجزها عن حل مشاكل الناس والمجتمع، فيترك الإعلام التابع لها كل ما يشغل الناس من أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع للأسعار واحتقان سياسى وشعبى بسبب اتفاق الجزيرتين، ويوجه أصابع الاتهام إلى تصريحات وتدوينات ــ بعضها للأسف لم يكن موفقا ــ حول حوار مع ضيف مصر كما لو كان يمكن أن يترتب عليه قطع العلاقات المصرية الفرنسية أو تغيير مسار التعاون الاقتصادى بين البلدين أو المساس بأمننا القومى.
هذه الحالة من التوجس والتخوين التى طالت خلال السنوات الماضية كل من تجرأ وأبدى اعتراضا أو حتى تحفظا على سياسة الدولة وممارساتها لم تعد مقبولة أو قابلة للاستمرار لأنها فى الحقيقة الوسيلة الأكيدة لهدم المجتمع ومؤسساته وتعميق الانقسام بداخله واضعاف قدرته على مجابهة المخاطر والتحديات. وأعود للتأكيد على أن الدولة لا تكون قوية فقط بقدراتها الدفاعية والقتالية، وإنما أيضا بما يسودها من ترابط داخلى وقبول لتعدد الآراء وإيمان بأن الاختلاف لا يعنى الخيانة أو شق الصف. أما الإصرار على أن يسود المجتمع رأى واحد وعلى أن تكون للدولة وحدها الوصاية والولاية على الشأن العام فلا يساهم الا فى تعميق الانقسام ودفع الشباب الراغب فى المشاركة وفى رسم مستقبله إلى اليأس والقنوط، أو إلى انتهاج سبيل العنف بعدما سدت فى وجهه سبل الحوار والاحتجاج السلمى.