«خارطة الحب»، رواية أهداف سويف، التى صدرت مؤخرا فى طبعة جديدة عن دار الشروق كتبت أصلا كما يعلم القارئ باللغة الإنجليزية «1999» مثل روايتيها السابقتين «فى عين الشمس» (1992) و«عائشة» (1983) ومجموعتها القصصية «الزمار» (1996)، إلا أن أهداف سويف تدهشنا وهى تكتب باللغة الإنكليزية للمتكلمين بها ــ تدهشنا إذ لا تنأى بها هذه الحقيقة اللغوية الصارمة قدر أنملة عن ثقافتها الأم، عن مصر وقضاياها وبشرها وتاريخها.
تدهشنا هى العائشة فى لندن، المتحركة فى دوائرها الثقافية وفى أوساطها اللامعة منذ عقدين من الزمن أو يزيد، تدهشنا بحفاظها على حس مصرى رهيف، بوعيها المتابع لقضايا الناس اللصيقة، بقدرتها على النفاذ إلى شواغل حتى الفلاحين وبسطاء الناس وإنطاقهم فى لسان يميزهم حتى فى اللغة الإنكليزية. ألا فليشهدْ القاصى والدانى أن الانقطاع عن الأوطان والمقام فى ديار الأغراب إنما يزيد من الانتماء، ويشحذ المحبة، وأن معايشة «الآخر» هى خير سبيل للاقتراب من «الذات».
والحق أن الكاتبة تبدو على وعى دقيق بأهمية اللغة كأداة للتواصل بين الحضارات، ففى إحدى رسائل لليدى آنا وينتربورن، بطلة الرواية الإنكليزية التى تزوجت مصريا وأثارت سخط قومها فى ذروة السيطرة البريطانية فى مصر، تتمنى لو كان هناك مصرى يستطيع أن يخاطب الرأى البريطانى العام ليقنعه بعدالة القضية المصرية، مصرى «يستطيع أن يستخدم الاصطلاح المناسب، أن يسوق الصورة المعبرة أو يقتطف العبارة الملائمة، مصرى يستطيع أن يعزف النغمة الصحيحة فينفذ إلى قلوب الشعب البريطانى وعقولهم...» (ص399 من الطبعة الإنجليزية) ليس هذا صوت الليدى آنا وحدها قبل مائة عام، وإنما هو صوت أهداف سويف اليوم وصوت كل مثقف عربى يعيش فى الغرب ويفهم ثقافته ويفهم كيف يخاطب الناس وكيف تحرك مشاعرهم، وهو ما لا يفهمه الغالبية العظمى من قادة العرب وساستهم، الذين يركزون اتصالاتهم على قادة الغرب، جاهلين أن الطريق إلى أسماع أولئك إنما يمر أولا بالرأى العام لشعوبهم، وهو الطريق الذى يتركه العرب مجالا مباحا لإسرائيل وحدها. والمفارقة أن رواية سويف نفسها هى مصداق أمنية شخصيتها الليدى آنا: فهاهو صوت مصرى عربى يخاطب الجمهور الغربى باللغة التى يفهمها، لغة الفن الرفيع مكتوبا بالإنجليزية، وهاهى صفحة من التاريخ البريطانى المصرى العربى تفتح للمراجعة أمام الأجيال المعاصرة من البريطانيين والغربيين عموما علهم أن يفهموا نظرة الآخر إلى تاريخهم الكولونيالى، وعلهم أن يفهموا أيضا مسئوليتهم الأخلاقية عن الإرث غير الطيب المتمثل فى إسرائيل الذى تركته سياستهم فى المنطقة.
والجميل فى الأمر أنها صفحة تفتح فى هدوء وموضوعية وبنظرة إنسانية جمالية تستهدف الفهم والإفهام لا التجريم والإدانة، نظرة تترك الغربى فى النهاية مدركا لبشرية الآخر الشرقى ومثليته عن طريق إشراكه فى حياته اليومية، فى آماله وإحباطاته، فى مسراته وأحزانه، فى عاداته وعباداته إلى آخر ما تصوره الرواية من خلال عيون الليدى آنا فى الماضى وإيزابل الأمريكية فى الحاضر.
الليدى آنا وينتربورن تمثل الصوت الآخر فى قصة الإمبراطورية البريطانية من حيث علاقتها بالبشر الخاضعين لحكمها، تمثل الصوت الذى لم يسمع إبان مجد الإمبراطورية لأنه كان خفيتا وكان نادرا، صوت التسامح، صوت الانفتاح على الآخر المخضَع المحكوم، الصوت الراغب فى التعلم، الناقد للذات، المدرك لبشرية الآخر ونديته حتى وهو تحت سيطرته الاستعمارية.
أهداف سويف تريد أن تبرز من طريق الأدب الروائى ما لم يبرزه التاريخ، وكأنها تريد أن تقول من طريق غير مباشر أن تلك الأصوات التى أهملها التاريخ أو لم يلاحظها إطلاقا لأنه كان مشغولا بالإنصات إلى أمثال اللورد كرومر واللورد كتشنر، وتدوين فظائعهم معتقدا أنها أمجاد كبرى ــ كأنها تريد أن تقول إن تلك الأصوات هى الأصوات الأجدر بذاكرة التاريخ، أن فعل تلك الضمائر هو الأصلح للتدوين، وأنها هى التى تبقى ونهجها المقرّب بين البشر هو الذى يسود بعد أن تزول كل الأمجاد الزائفة للغزو والسيطرة والتعصب للذات على حساب إنكار الآخر.
تقوم الرواية فى بنيانها الفنى وفى محتواها الفكرى معا على جدل متواصل بين الماضى وبين الحاضر، فهى رواية متعددة الأجيال، يدور حدثها الرئيسى على مستويين منفصلين على الصعيد الزمنى، فأحدهما يسبق الآخر الذى هو اللحظة التاريخية الراهنة بمائة عام ويجرى موازيا له، وأبطال الحدث المعاصر هم أحفاد أبطال الحدث التاريخى.
وعن طريق مداولة السرد بين الجيلين واللحظتين ــ وهو ما تؤديه سويف ببراعة ــ تتفتق الرؤية ويتضح المعنى. فعلى الرغم من القرن الفاصل فالتشابه بين اللحظتين كبير، فكلتاهما لحظة نضال وطنى وصراع مصيرى: فى الماضى كان الصراع ضد هيمنة الاحتلال البريطانى، وفى الحاضر ضد الهيمنة الإسرائيلية فى المنطقة، وإذا كان شريف باشا البارودى يمثل الوطنية المصرية فى الماضى، فإن عمر الغمراوى، سليله المعاصر الذى تمتزج فى عروقه الدماء المصرية والفلسطينية، الأكاديمى والموسيقار الذى يعيش فى نيويوك ويُحار الأمريكان بين الإعجاب بعبقريته والتحفظ من تكريسه جهده الفكرى للقضية الفلسطينية، عمر الغمراوى هذا (والذى يبدو شخصية منمذجة على قالب إدوارد سعيد) هو تجسيد الوطنية العربية فى الحاضر، واغتياله فى سنة 1998 هو امتداد لاغتيال شريف باشا فى سنة 1911، وتأكيد على أن النضال الوطنى العربى ما يزال يواجه نفس المأزق المصيرى وإن تغيرت المراحل.
هذا التوازى بين التاريخ والحاضر ينطوى على رؤية سوداوية، وإن كان الواقع مصداقها. وهى رؤية تنعى ضياع قرن من الزمن دون تعلم درس التاريخ، فالزمن يمضى والإنسان المصرى والعربى يجد ذاته فى نفس الموقع يواجه اليوم نفس المأزق الذى بذرت بذوره فى الماضى، وإن تغير اللاعبون.
ترى هل ثمة نظرة فلسفية وراء هذا التمثيل الروائى لدى الكاتبة؟ هل تريد سويف أن تذكرنا بأن العام هو مجموع الفردى، وأن التحدى الفردى للنوازع والمسلمات العامة هو أيضا عنصر فاعل فى صياغة التاريخ، وأنه لو استسلم كل فرد لعرامة التيار العام لما تغير شىء أبدا؟ فى رأيى أن الرواية تطرح هذه المقولة بقوة وأنها تعلى من شأن الضمير الفردى وفعله التراكمى فى مسار التاريخ وفى التطور الأخلاقى للبشر. المنظور التاريخى للرواية يؤكد هذه الرؤية، فأمثال اللورد كرومر فى بريطانيا اليوم قد انقرضوا أو كادوا، فى حين أن أمثال الليدى آنا قد تكاثروا وعمّوا، بحيث يمكن القول بأن مرور مائة عام قد شهد الاستثناء والقاعدة يتبادلان المواقع. ولعل هذه الثقة الضمنية فى الحركة الإيجابية للتاريخ الناشئة عن الجدل بين العام والخاص أن تكون مصدرا فلسفيا للتفاؤل فى هذه الرواية التى تنبض بالحسرة على الواقع العربى اليوم وما فيه من توازٍ أليم مع الواقع العربى قبل قرن.
ولعل هذه لحظة مواتية للتوقف عند عنوان الرواية. إن «خارطة الحب» هى الخريطة التى تريد الكاتبة أن تحلّها محل خرائط الجغرافيا، التى هى خرائط الحدود الطبيعية والحدود السياسية، خرائط الفرقة والصراع والتنافر، أما خريطة الحب، فهى خريطة بلا حدود ولا حواجز ولا نقاط عبور. هى خريطة التآلف والتسامح والتفاهم بين الأفراد والحضارات، وهى الخريطة التى تدعو الرواية البشر أن يترسموا بها الطريق فى رحلة الحياة.