بلزونى يسرق تمثال ممنون من البر الغربي! - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الإثنين 1 يوليه 2024 8:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بلزونى يسرق تمثال ممنون من البر الغربي!

نشر فى : الثلاثاء 25 يونيو 2024 - 7:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 يونيو 2024 - 7:38 م

قبل أكثر من قرنين من الزمن، فتح محمد على أبواب مصر على مصارعها للخبراء والمغامرين الأوروبيين للعمل فى خدمته مع منحهم مكافآت مغرية. كانت حجة محمد على باشا أن الشعب المصرى جاهل متخلف تعليما وثقافة بسبب قرون من الحكم المملوكى والعثمانى الذى انكشفت كل سوءاته فى الهزيمة الساحقة أمام جيش نابليون بونابرت.

من بين الذين فتح لهم محمد على أبواب مصر على مصارعها مغامرون ومقامرون وجدوا فى هذه البلاد فرصة عظيمة للثراء. من بين هؤلاء لاعب سيرك إيطالى فارع الطول يقوم بحركات بهلوانية ذكية ومبتكرة على المسرح. اسمه بلزونى.

ترك بلزونى السيرك والبهلوانات فى بلاده وجاء إلى مصر ليشارك فى عملية نهب الآثار إلى الخارج.

فى عام 1816 نجح بلزونى فى سحب وجر النصف الأعلى لتمثال رمسيس الثانى من معبد الرمسيوم فى البر الغربى بالأقصر على نحو ما توضح الصورة المرفقة، مستخدما عشرات بل مئات الفلاحين البسطاء الذين كانوا يبحثون عن أى فرصة عمل للاسترزاق ولقمة العيش فى ظل احتكار محمد على للاقتصاد المصرى.

رسم فني لعملية نقل تمثال رمسيس الثاني من البر الغربي في الأقصر

 

نقل بلزونى هذا النصف الضخم من التمثال إلى متحف لندن، وأصبح الآن هذا التمثال درة تاج المتحف البريطانى.

فى السنة التى كان بلزونى وغيره يقومون بنهب آثار مصر تحت عيون محمد على باشا ورضاه كانت متاحف العالم كله تتلقى هذه القطع المنهوبة فتؤسس بها متاحفها «الوطنية» فى العواصم الأوروبية. حققت هذه المتاحف القائمة على النهب ثلاثة أهداف عظيمة وحُرمت منها مصر:
- تأسيس مدارس علمية قوية انشغلت على مدار قرنين من الزمن بدراسة وفحص كل القطع المنهوبة فشكلت أرشيفا ضخما أقرب إلى بنوك للمعلومات.

- السيطرة على علم المصريات من خلال تكوين بعثات دائمة تحتكر مفاتيح الأسرار فتأتى فى زيارات موسمية لمصر كل شتاء لتكمل مشروعاتها دون أن تكون لمصر مشاركة حقيقية فى العمل.

- جنى أرباح ضخمة من رسوم دخول المتاحف الأوروبية فى العواصم الأوروبية بل وتأجير قطع الآثار المصرية للسفر حول العالم مقابل مبالغ ضخمة تعود على هذه الدول.

فى أحدث زيارة قمت بها إلى البر الغربى فى الأقصر وقفتُ أمام النصف الأسفل من تمثال رمسيس الثانى فى معبد الرمسيوم بالبر الغربى للأقصر الذى يوجد النصف الأعلى منه الآن فى متحف لندن، واسترجعت قصة بلزونى.

 

تمثال رمسيس الثاني في متحف لندن


تعرفت على قصة بلزونى أول مرة فى عام 2008 حين نقلت للعربية مع زميلى د. محمد رزق كتاب «مصر والمصريون» الذى صدر أولا عن «مكتبة الشروق الدولية» ثم تبنته «مكتبة الأسرة» ضمن مشروع القراءة للجميع وقد ألفه اثنان من كبار علماء المصريات فى الولايات المتحدة (إيملى تيتير ودوجلاس بريور).

فى ذلك الكتاب وفى غيره من الكتب نتعرف على مسيرة طويلة من جذور نهب الآثار فى مصر وتوسيع الفجوة الضخمة بيننا وبين الغرب فى هذا العلم الذى يشكل أحد العلوم المدرة للدخل، والمدرة للربح، والذى يمكن إن أحسنا الاستثمار فيه أن نحقق فوائد وعوائد كبرى للاقتصاد المصرى.

قبل أن أغادر الرمسيوم تطلعت إلى بعثة أجنبية تعمل غير بعيد فى إعادة ترميم أحد المعابد القريبة، البعثة تعمل وفق أسلوب علمى مبهر ومدهش ويحقق نتائج عظيمة، لكن مشهد الفلاحين لم يتغير فى جر وترتيب الحجارة، لم أجد العمال المصريين سوى فى النقل والجر والرفع والحمل، كان «الخواجات» يفعلون كل ما هو علمى وفنى من أسرار العمل وبينهم تقف كاميرات قنوات أجنبية تصنع أفلاما وثائقية ستحقق أرباحا فلكية فى الشهور المقبلة.


أين المشاركون المصريون؟


سألت هذا السؤال كثيرا خلال السنوات الخمس الماضية: من أسوان للإسكندرية ومن المنيا للواحات الخارجة. جاءتنى الإجابة فى شكل ثلاثة تفسيرات:

- الدولة بالفعل تعين مفتشى آثار مصريين مع البعثات يعملون معهم كتفا بكتف ويتعلمون منهم لكى يحصلوا على الخبرة اللازمة كمرحلة انتقالية ليقودوا العمل فى المستقبل بأيدٍ مصرية خالصة. لكن عدد هؤلاء قليل وتكوينهم العلمى ليس دوما على أسس قوية، فضلا عن أن مرتباتهم ضعيفة مقارنة بمغريات عالّم الآثار المغرى المغوى المخيف، والقيود الإدارية عليهم معرقلة فيتركون المكان ويخلون الساحة تماما ويبحثون عن عمل آخر مع ضمان المرتب الهزيل الذى يحصلون عليه كل شهر.
- أن المصريين أبرياء من التهمة السابقة وأنهم يرغبون فى التعلم وتشرب المهنة من الأجانب لكن هؤلاء الأجانب أنانيون وأحيانا استعلائيون، يريدون الاحتفاظ بأسرار المهنة لأنفسهم ولا يسمحون للمصريين بالاطلاع عليها. يستفيد هؤلاء الأجانب من ثغرات فى القانون الأثرى تضمن لهم عملهم بشكل حصرى دون تدخل من الجانب المصرى بما قد يغير من معادلة الاستحواذ والاحتكار المعرفى.
- إن التفسيرين السابقين صحيحان ولكنهما من تراث السنوات الماضية وأننا الآن بصدد تغيير النظام إلى مشاركة مصرية فاعلة وأن المستقبل سيشهد بزوغ فرِق مصرية كاملة فى العمل، والدليل على ذلك تواتر الأخبار عن كشوفات تقوم بها فرق مصرية وطنية كاملة دون تدخل من الأجانب.
فى الختام لا أرى بديلا عما فعلته روسيا قبل عقود طويلة حين وجدت أن ثروتها النفطية هى أغلى الثروات فانتقلت من مستوى كليات البترول وأقسام الجيولوجيا إلى تأسيس «جامعة للبترول والمعادن والجيولوجيا» ضمت فيها كليات ومعاهد وعشرات الأقسام وآلاف الخبراء والعلماء والباحثين والطلاب من باحثى المستقبل.
أليس حريا بنا تأسيس «جامعة الآثار وعلوم المصريات» تضم كليات ومعاهد وأقسام بما يضمن أن يصبح علم الآثار فى مصر رافدا مهما من روافد الاقتصاد والتنمية وخلق فرص العمل؟

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات