خرجت المظاهرات فى أكثر من عشرين مدينة أمريكية تندد بتبرئة رجل أبيض متهم بقتل شاب أسود. لم يكن الحادث فى حد ذاته فريدا أو نادر الحدوث فى تاريخ العدالة الأمريكية، بل تكاد تكون القاعدة إدانة الأسود قاتل الأبيض حتى لو كان القتل دفاعا عن النفس وتبرئة الأبيض قاتل الأسود حتى لو جرى القتل فى وضح النهار وبشهادة شهود. فى قولى هذا مبالغة ولكنها على كل حال الصورة التى تعيش فى مخيلة الأمريكيين من أصول أفريقية، وفى هذه القضية تحديدا كانت قناعة الأمريكيين السود بها واثقة ومكتملة.
تأكدت قناعة السود فى هذه القضية واكتملت لأنه يوجد فى البيت الأبيض رئيس أسود، وأن هذا الرئيس الأسود أقنع جماهير الأمريكيين السود قبل أن يدخل قصر الرئاسة بأن أحوالهم فى عهده ستتغير وكذلك أسس العلاقة بين البيض والسود، وسوف تتقهقر المشاعر العنصرية التى كثيرا ما أساءت إلى سمعة أمريكا فى الخارج وإلى السلام الاجتماعى فى الداخل.
●●●
جلس الصحفيون المعتمدون لدى البيت الأبيض فى القاعة التى ينعقد فيها المؤتمر الصحفى اليومى ينتظرون، وإذا بالرئيس الأمريكى باراك أوباما يفاجئ الحاضرين بدخوله إلى القاعة دون سابق إعلان. كان واضحا أن التوتر الإعلامى والغضب السائد المتصاعد فى الشارع الأسود يضغطان بشدة على البيت الأبيض ليفعل الرئيس شيئا، أو على الأقل، ليقول شيئا.
وبالفعل قال شيئا. وكالعادة كان مؤثرا ولعله، أى الرئيس، كان أيضا متأثرا. إذ كان فى زيارة للسنغال قبل أسابيع قليلة، وكما تقضى أصول الزيارة، قام مع ميشيل وابنتيهما بزيارة المعتقل الذى كان يأوى «العبيد» قبل نقلهم إلى قوارب ومراكب تعبر بهم الأطلسى نحو شواطئ الأمريكتين. وبالرغم من إجراءات التعقيم والنظافة التى تباشرها حكومة السنغال، فإن المكان بقى على مر العقود شاهدا على الموت بالجملة والاغتصاب والمرض والوحشية والعبودية. ترى صور «العبيد» مقيدين بسلاسل ملقى بهم فى أقبية عفنة وفى غرف مظلمة جدرانها سوداء ورائحة الرطوبة مختلطة بروائح أخرى لا يعجز الزائر عن تخيلها. أنا نفسى تخيلتها فى زيارتى للمكان أو لعلها كانت هناك بالفعل، تصورت أنها تحدت الزمن فبقيت ولم تغادر. هذا بالضبط ما رآه المستر أوباما وعائلته، وهذا ما جعله يفكر آنذاك فى مصير مئات الألوف من الأفارقة الذين مروا بهذا المكان وعاشوا عبيدا فى أمريكا وخلفوا من ذريتهم ملايين من المواطنين السود حصلوا بعد المعاناة والكفاح على الحرية ولكنهم لم يحصلوا على المساواة الكاملة فى انتظار الخلاص على يد رئيس منهم.
●●●
وقف أوباما أمام الصحفيين وملايين المشاهدين الأمريكيين ليقول كلمة سوف تصبح فى شهرة كلمات موجزة أخرى قالها كنيدى وروزفلت وكلينتون، قال إنه، أى أوباما، كان يمكن أن يكون محل الشاب الأسود تريفيون الذى مات مقتولا برصاص الرجل الأبيض زيمرمان. لم يكتف بهذه العبارة الموجزة ولكن المؤثرة، بل راح متطوعا يسرد كيف أنه كان يمشى فى الطرقات فيسمع أبواب السيارات تغلق خشية أن يكون هذا الشاب الأسود المار بالطريق لصا. حكى أيضا عن كل مرة دخل فيها مصعدا فإذا بالسيدات البيض يسارعن باحتضان حقائبهن اليدوية بعد إغلاقها جيدا، بل إن كثيرات منهن كن يكتمن أنفاسهن طوال رحلة الصعود أو الهبوط. خاطب ملايين المشاهدين متألما ومتذكرا كيف كان يدخل متجرا كبيرا للتبضع فيسير من خلفه رجل أمن يراقب كل حركة تصدر منه متوقعا أن يسرق بضاعة معروضة أو حقيبة يحملها زبون أو زبونة.
●●●
تابعت، من هنا، صدى كلماته وتأكدت أنها أحدثت فى ساعتها تأثيرا قويا فى نفوس كثير من الأمريكيين السود، إلا أننى اكتشفت بالمتابعة أن الغالبية العظمى منهم لم تكن راضية، فقد جاءت كلماته لهم قليلة جدا ومتأخرة جدا، لا تعد بشىء عملى أو واقعى. بمعنى آخر انتهوا إلى اقتناع بأن أوباما مثل كل الرؤساء الذين سبقوه ترك القضية لرئيس يأتى بعده. هؤلاء يعلمون حق العلم أنه لن يأتى إلى البيت الأبيض رئيس أسود آخر خلال الأجل المنظور.
●●●
من ناحية أخرى خرج المحافظون بانطباع لا يقل سوءا، إذ اعتبروا كلمات أوباما بمثابة تحريض للأمريكيين السود على التمرد والخروج على النظام العام. البيض من هؤلاء انتقدوا كلمة أوباما لأنها تحدثت عن الجانب «الأسود» من أوباما وتفادت الحديث عن الجانب الآخر كرجل مهجن من أب أسود وأم بيضاء. وكرجل مهجن لم يكن يحق له أن يتحدث باسم السود. صحيح ما قالوه فى انتقادهم لكلمة أوباما لأنه لم يذكر فيها أنه دخل أفضل المدارس الابتدائية والثانوية، وتخرج من جامعتى كولومبيا وهارفارد، وكلاهما من أهم القلاع التعليمية التى تدرب النخبة البيضاء على حكم البلاد. لماذا يقول إنه كان يمكن أن يكون محل الشاب الأسود القتيل، ولا يقول، إن الشاب الأسود القتيل كان يمكن أن يكون محله، محل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
●●●
كتبت إحدى المدونات تقول إنها حضرت قبل سنوات حفلا ضم نجوم المجتمع السياسى والمالى وكان أوباما مدعوا إليه بصفته سيناتور فى مجلس شيوخ ولاية إلينوى. بدا الرجل، حسب وصفها، حائرا لا يعرف من يكلم ومع من يجلس، بدا وحيدا ضائعا حتى إن أحد الضيوف ظنه نادلا فاستدعاه وطلب منه أن يحضر له كأسا من الشراب.
●●●
أذكر أننى قرأت فى مكان ما من كتابه عن حياته the Audacity Of Hope الذى صدر عقب توليه منصب الرئاسة كلمات كان لها تأثير قوى فى نفسى، قال “أنا الآن احتل منصبا يعزلنى عن معظم المطبات التى يتعرض لها كل أمريكى من أصل أفريقى، بإمكانى الآن أن أسرد عددا من الإساءات التى آذتنى طوال 45 عاما.» وبالفعل سرد فى الكتاب بعضها، وأعاد سردها أمام الصحفيين فى البيت الأبيض كما لو كان يريد التأكيد على أنه يتذكر تلك الأيام، أيام كان أسود.
●●●
أجد فى هذه القصة دلالات عديدة، أهمها فى رأيى، أن أوباما خيب آمال أقرب الناس إليه، أبناء جنسه، تماما كما خيب آمال كثيرين من أبناء أجناس وشعوب أخرى تحدث إليهم فى القاهرة وأنقرة وغانا فى العام الأول من ولايته. الآن وبعد خمسة أعوام نستطيع كعرب، وبخاصة الفلسطينيون والسوريون، التماهى مع الأمريكيين السود الذين علقوا آمالا كبار على أول رئيس أسود للولايات المتحدة.