طبيعى أن تتصدر أخبار اعتصام أمناء الشرطة بمحافظة الشرقية عناوين الصحف والفضائيات، كما تصدرتها فى الأسبوع الماضى مظاهرة موظفى وزارة المالية ضد قانون الخدمة المدنية الجديد. فالحدثان خطيران بكل المقاييس لأنهما يعبران عن خلافات فى قلب الدولة وتحديدا فى جهتين لهما أهمية فى استقرار الأوضاع الاقتصادية والأمنية. وللأسف فإن وسائل الإعلام القريبة من الدولة سارعت فى المرتين إلى اعتبار أن وراء كل هذا مؤامرات وتدخلات خارجية، بينما انطلق الإعلام الإخوانى مؤكدا أن هذه علامات أكيدة على ترنح النظام وقرب سقوطه. وفى تقديرى أن التفسيرين قد جانبهما الصواب لأن القضايا المثارة فى الحالتين حقيقية، كما أنها فى الوقت ذاته قابلة للتفاهم والحل ولا تهدد كيان الدولة إذا ما تم التعامل معها بحكمة.
ولكن من جهة أخرى فإن القضيتين تعبران عن إشكالية أكبر وأعمق من مجرد الخلاف على بدلات وحوافز فى حالة أمناء الشرطة أو على نصوص قانون جديد بالنسبة لموظفى الدولة، وهى إشكالية غياب المناخ السياسى والإطار التشاورى الذى يسمح للمجتمع بحل خلافاته وحسم الصراع بين المصالح المختلفة فيه. بمعنى آخر فإن جوهر الأزمة التى عبر عنها هذان الحدثين ليس وجود خلافات وصراعات فى المجتمع ــ فهذا طبيعى فى كل مجتمع إنسانى ولا ينبغى أن يكون فى حد ذاته مصدرا للقلق ــ وإنما غياب الآليات التى يمكن من خلالها حسم هذه الصراعات والخلافات بشكل قانونى وعادل قبل أن تستفحل وتتحول إلى فوضى فى الشوارع.
وغياب هذا المناخ السياسى الصحى يرجع إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية:
أولها عدم اكتمال المؤسسات التى تسمح لقوى المجتمع المختلفة بالتنظيم والتعبير عن مطالبها بشكل قانونى والتفاوض بشأنها مع الأطراف الأخرى. ولا أقصد بهذا مجرد غياب البرلمان ــ باعتباره الحلبة الرئيسية التى تتحدد فيها سياسات وتشريعات البلد ــ والمجالس المحلية المنتخبة، وإنما أيضا عدم نضوج ووضوح الدور الذى تقوم به جمعيات المستثمرين ورجال وسيدات الأعمال بما يجعلها موضع توجس من الرأى العام حينما تعبر عن مصالح أعضائها، وضعف البناء المؤسسى للنقابات المهنية والعمالية على حد سواء، وغياب المعلومات الرئيسية التى تمكن الناس من المتابعة والنقاش والتفكير فى البدائل.
أما الاعتبار الثانى فهو التحجيم والتقييد الذى وقع خلال العام الماضى على منظمات المجتمع المدنى، وأقصد بها الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والإعلام المستقل، بسبب ضغوط قانونية وأمنية واقتصادية، جعلت مساحة الحوار السياسى تتقلص ومعها قدرة المجتمع على التعبير بشكل طبيعى عن مصالح فئاته المختلفة، والتوسط بين الأطراف قبل الوصول لمرحلة الانفجار.
وأخيرا فإن الاعتبار الثالث هو الحالة السائدة فى الخطاب الرسمى والإعلامى والتى تنظر إلى كل رأى مخالف لسياسات الدولة وكل اعتراض على التشريعات التى تصدرها وكل طلب بمعلومات إضافية باعتباره محاولة لهدم الاصطفاف الوطنى وزعزعة أسس الدولة وتهديد استقرارها واقتصادها، كما تعتبر المطالب النقابية والمهنية فى الظروف الراهنة إما تعبيرا عن انتماءات إخوانية مستترة أو «أنانية» وضعف فى الوازع الوطنى. والحقيقة أن ما يهدد استقرار البلد وفرصته فى التنمية والتقدم هو غلق قنوات التعبير المشروع عن المطالب والمظالم لانها حينئذ تتحول إلى احتقان وعنف وفوضى، بينما احترام حق التعبير والمطالبة بالحقوق والتفاوض بشأنها يدعم وحدة المجتمع وتماسكه.
وليكن واضحا أن ما سبق لا يعنى أن مطالب أمناء شرطة الشرقية كلها مشروعة ويجب الاستجابة لها، ولا أن اعتراض موظفى الدولة على قانون الخدمة المدنية فى محله، فليس موضوعى هنا تقييم هذه المطالب والمواقف، ولا الحكم على ما حدث على الأرض فى المناسبتين، خاصة أن كثيرا من التفاصيل لم تتضح بعد، بل التأكيد على أن غياب آليات الحوار والتفاوض السياسى فى البلد هو ما يؤدى إلى تحول كل قضية فئوية إلى مناسبة للاحتقان والتوتر والعنف.
هذه الآليات الغائبة هى فى الحقيقة ما يمثل جوهر الديمقراطية لأنها وحدها القادرة على تحقيق التوازن السليم فى المجتمع بين المصالح المختلفة، وتوجيه موارد الدولة نحو الانفاق السليم، وتوفير الحد الأدنى من العدالة فى توزيعها، وضمان رقابة الشعب عليها. ولكن طالما يتم تقديم الديمقراطية للرأى العام باعتبارها مجرد صراع على مقاعد برلمانية، وكلام نظرى يملأ صفحات الفيسبوك، ونظام مستورد يناسب النخبة الثقافية ويعرقل معركة الدولة ضد الارهاب، فإن المجتمع سوف يظل محروما من القدرة على حل مشاكله وصراعاته فى إطار سلمى وتفاوضى وسوف تظل كل قضية خلافية مؤهلة لأن تتحول إلى معركة فى الشوارع.