من الإشكاليات التى ظهرت فى مصر بعد الثورة تشكك بعض الشباب فى العمل الحزبى وابتعادهم عن الانضمام للأحزاب القائمة أو تشكيل أحزاب جديدة، وتفضيل البعض عمل جماعات ضغط. هناك بالطبع أسباب حقيقية لهذا، منها إرث النظام البائد، والممارسات السيئة لمعظم السياسيين السابقين، وفشل القوى الحزبية والنقابية التقليدية فى الضغط على النظام البائد ودفعه إلى الإصلاح التدريجى. بجانب تأثرنا جميعا بالمفهوم الغربى للسياسة الذى يدور حول تحقيق المصالح الذاتية ولو على حساب الغير وبدون التقيد بالقيم والأخلاقيات.
بالطبع يمكن للشباب الاستمرار فى خدمة المجتمع دون ممارسة العمل الحزبى وذلك من خلال جماعات الضغط والمجتمع المدنى والأهلى، مع الإقرار بأهمية دمج الشباب فى العمل الحزبى. لكن، وبعد ثورة صنعها الشباب، أعتقد أنه على واضعى الدستور الجديد التفكير فى وسائل أخرى لتمكين الشباب، والمواطنين بشكل عام، من ممارسة السلطة وتوسيع سبل المشاركة.
يمكن التفكير فى تبنى الدستور الجديد بعض مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة، والتى هى آلية واحدة من آليات جعل الشعب سلطة رابعة. فبجانب استخدام أسلوب الاستفتاء الشعبى مع وضع الضمانات اللازمة لحصره فى القضايا الجوهرية ومنع إساءة استخدامه لتجاوز دور البرلمان، يمكن تبنى الاقتراح الشعبى الذى يسمح للناخبين باقتراح مشروع قانون ورفعه للبرلمان لمناقشته فإذا تم اقراره أو رفضه، يعرض على الشعب لاستفتائه فيه، كما الحال فى بعض الكانتونات السويسرية والدويلات الأمريكية والكندية.
ويمكن أيضا تبنى أسلوب عزل الحكام إذا أخلوا بواجباتهم وإعادة الانتخابات أو إجراء انتخابات مبكرة، ويمكن تطبيق هذا الأسلوب على مستوى المحافظين المنتخبين وعلى مستوى نواب المحليات ونواب البرلمان، بإعطاء الجماهير الحق فى طلب إجراء انتخابات مبكرة على منصب معين قبل انتهاء المدة المقررة لشاغل المنصب لسبب محدد، مع ضمان حق المطعون فيهم فى دخول الانتخابات الجديدة. فى فنزويلا، تعطى المادة 72 من الدستور المواطنين الحق فى استبدال كل الأشخاص الذين يأتون إلى مواقعهم بالانتخاب بما فى ذلك رئيس الدولة (وكانت هناك محاولة لخلع شافيز عام 2004).
يحتاج الأمر تدابير قوية لضمان الجدية ولمنع إساءة الاستخدام، كأن يشترط توافر عدد كبير من التوقيعات (نسبة 10 أو 15 فى المائة مثلا من إجمالى أصوات آخر انتخابات..)، والمدة (تحديد مدة شهر مثلا لجمع التوقيعات..)، والإجراءات (عدم تكرار نفس الموضوع خلال سنة أو سنتين، وتوزيع التوقيعات على المحافظات..).
لهذا الأمر فوائد عدة ــ إذا أحسن استخدامه ــ فهو يستفيد من الحالة الثورية القائمة ويترجم طموحات الشباب فى المشاركة بتوفير أسلوب سلمى دستورى أمام الناخبين للمشاركة والتعبير عن الرأى والتأثير فى النقاش العام من خلال حملات شعبية ومن خارج البرلمان والأحزاب، وذلك لتحقيق أكثر من هدف: محاسبة الحكام والنواب، توسيع نطاق الديمقراطية التى لن تكون بالنسبة للأفراد العاديين مجرد التصويت فى الانتخابات وإنما يمكن ممارستها طوال الوقت، وإشراك الناس فى تحديد موضوعات الأجندة السياسية المطروحة. وبهذا يصبح العمل السياسى أقرب إلى شراكة بين النخب السياسية والمجتمع، وتكون الحكومة أكثر استماعا لأصوات الشارع، أما السياسة فلن تصنع خلف الأبواب المغلقة إلى حد كبير.
هذا بجانب تحسين أداء الحكام ونوعية الحكم، فطرح المسألة، حتى قبل جمع التوقيعات، قد يدفع الحكومة والبرلمان إلى مناقشة الأمر، ويقلل من احتمالات تجاهل النواب للناخبين ومن استبداد الأغلبية فى البرلمان ومن سيطرة الأحزاب على المواطنين، كما يكمل الأدوات التى تقدمها الديمقراطية النيابية لتقييد الحكام، مثل الانتخابات، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، والرقابة القضائية، والتعددية الحزبية.
والأهم أن هذه الآليات ستسهم فى إعادة ثقة الناس بالسياسة وفى تسييس الجماهير، خاصة الشباب، ودفعهم إلى الاهتمام بالشأن العام وزرع الأمل فيهم بإمكانية تغيير السياسات والأشخاص. وإن كان الأمر يتطلب وعيا من الجماهير، فإن تبنى الأمر بضمانات محددة وممارسته خير وسيلة لرفع الوعى به وتحقيق فوائده.