اختفى الدستور ــ أو كاد أن يختفى ــ من على ساحة الحوار السياسى، فلم يعد يظهر إلا حينما تخرج علينا الصحف بآخر أخبار الجمعية التأسيسية وبشائعات وروايات حول ما تجرى مناقشته فيها. ولكن فيما عدا ذلك فالعمل يجرى على قدم وعلى ساق على كتابة الوثيقة القانونية الأكثر خطورة والأعمق تأثيرا على مستقبل البلد السياسى والاجتماعى دون اكتراث حقيقى من القوى السياسية أو متابعة كافية من الرأى العام كما لو كان الأمر يتعلق بقانون ينظم المرور أو يحدد مواعيد فتح المحال التجارية، وذلك برغم أن ما يتسرب من مناقشات الجمعية يؤكد أن ما تجرى كتابته سيكون نصا مليئا بالغموض، ملغما بالقيود الظاهرة والمستترة على الحريات، قاصرا عن حماية حقوق المرأة والمواطنة ومدنية الدولة، ومتجاهلا لأى قدر من العدالة الاجتماعية.
السبب فى هذا «التوهان» ــ فى تقديرى ــ أنه فى أعقاب نجاح القوى السياسية المعارضة فى إسقاط الجمعية التأسيسية الأولى (قبل الحكم ببطلانها)، فإن ذات القوى لم تنجح فى وضع تصور أو موقف مشترك للتعامل مع الجمعية الثانية، وذلك برغم أن كل اسباب العوار التى توافرت فى الجمعية الأولى قد توافرت فى الجمعية التأسيسية الثانية: فأعضاء مجلس الشعب (الذى صدر حكم بحله) استأثروا لأنفسهم بنسبة لا بأس بها من مقاعد الجمعية، والغالبية العظمى من خبراء مصر وفقهائها الدستوريين تم استبعادهم وتجاهلهم، وتمثيل فئات وطوائف ومصالح المجتمع جاء ضعيفا ولا يعبر عن تنوع حقيقى، والحوار المجتمعى الذى قيل إنه سيشجع مشاركة أوسع اقتصر على بعض الندوات الهزيلة. ومع ذلك فقد انقسمت القوى السياسية بين من اختار المشاركة فى عضوية الجمعية، ومن اختار اللجوء للقضاء فى محاولة لإبطالها، ومن انتظر أن يتدخل المجلس العسكرى بموجب الإعلان الدستوى المكمل، ومن انشغل بكتابة دستور بديل، وغالبية وقعت فى حيرة حول ماذا تفعل حيال هذا الموقف المضطرب.
ما العمل إذن؟ أم أن الوقت قد فات وعلينا قبول ما تخرج به الجمعية التأسيسية علينا من مفاجآت؟
الوقت لم يفت وساحة الجدل والنقاش والتأثير فى الدستور لا تزال مفتوحة، وعلينا أن نشارك فيها بقوة وبإيجابية من خلال ما يأتى:
● يجب أولا الإصرار على معرفة حقيقة ما يدور فى الجمعية بشكل رسمى، وليس بطريقة الشائعات و«السبق الصحفى». فالجمعية التأسيسية تنشر على موقعها الرسمى نصوصا محدودة ثم تسرب فى الإعلام نصوصا أخرى كما لو كانت «بالونات اختبار» تسعى لقياس استجابة الرأى العام وليس لتشجيع مشاركة المجتمع فى الجدل الدائر، وهذا وضع مرفوض ويجب الإصرار على تصحيحه من خلال بيانات رسمية ونصوص محددة تصدر من الجمعية.
● ويجب أن يتم التنسيق بين القوى السياسية لاتخاذ مواقف موحدة من القضايا الرئيسية فى الدستور لكى تمثل قوة ضغط على من يكتبون الدستور وتمكن الرأى العام من متابعة وفهم ما تجرى كتابته، بدلا من أن يندفع كل حزب وتيار بمفرده فى معركته الخاصة بعيدا عن حلفائه الطبيعيين.
● ويجب تحديد الأولويات التى تحظى باهتمام خاص لأن هناك قضايا ونصوصا لن تكون محل خلاف كبير، وقضايا أخرى لا تحتمل الغموض والالتباس والتى يلزم اعتبارها خطوطا حمراء لا يجوز تجاوزها، وعلى رأسها التمسك بنص المادة الثانية من الدستور السابق دون «لف ودوران» ودون محاولة تفريغها من مضمونها فى مواد أخرى، وحماية استقلال القضاء ورفض كل ما ينتقص من ولايته والتمسك بأن يكون تفسير القوانين فى يد القضاء المدنى وحده، وتوفير الحماية الكاملة لحقوق المرأة فى المنزل وفى العمل وفى الحياة الزوجية السليمة وفى المشاركة السياسية، والتأكيد على مبدأ المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن النوع أو الديانة أو الطبقة الاجتماعية، وحماية حق المواطن فى الصحة وفى التعليم وفى الضمان الاجتماعى وفى الحصول على الخدمات الأساسية التى تقدمها الدولة وفى جودتها، وإقامة التوازن السليم بين رئيس يحكم البلاد وبرلمان يشرع ويراقب وحكومة تدير وتنفذ، وضمان قدرة المجتمع المدنى على النمو والمشاركة الفعالة وتحريره من القيود العقيمة، واستحداث حقوق جديدة فى الدستور لم يجر الالتفات إليها فى الماضى ومنها حقوق الطفل وحماية البيئة وتوفير المعلومات وحماية حريات التعبير والإبداع الفنى والأدبى، وقبل كل ذلك وضع الضوابط السليمة لقوانين الانتخابات البرلمانية والمحلية التى ستصدر لاحقا حتى يكون الدستور أساسا لاستمرار التجربة الديمقراطية الوليدة.
● وأخيرا فيجب الإصرار على أن نصوص الدستور لا تقبل الغموض والمطاطية و«الفهلوة» فى الصياغة لأن غرضها هو حماية الحقوق وضمان الحريات وليس فتح الباب للتأويل والتفسير والتناقض فى المستقبل، وبالتالى يجب أن تكون نصوصا قاطعة، واضحة، ولا تحيل إلى قوانين تالية أو مبادئ مبهمة أو سلطات أخرى فى وضع قيود وفى الانتقاص من الضمانات فيما بعد.
الضغط من أجل تصحيح النصوص الدستورية المقترحة ــ ولو من خارج الجمعية التأسيسية ــ لا يزال ممكنا وضروريا، والناس من حقها أن تعلم أن هناك بدائل حقيقية ومحددة لما تتم صياغته الآن، ولكن علينا الخروج من حالة اللامبالاة وانتظار أن يأتى الفرج وعلينا الاشتباك مع النصوص المعروضة والمتداولة وتوعية الرأى العام بها لأن دستورا على النحو الذى تتسرب أخباره سيكون وبالا حقيقيا على مصر وعلى حلم إنشاء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وعلينا أن نقاوم ذلك بكل الوسائل وإلا ضاعت فرصة قد تكون الأخيرة.