أيا كانت نتيجة الانتخابات التونسية، فإنها قد نجحت نجاحا باهرا لسبب واحد فقط، وهو أن الناس بعد أشهر من التوتر والمعاناة والمشكلات الاقتصادية نزلت بأعداد هائلة ــ تقدرها بعض الجهات بسبعين فى المائة من المقيدين فى الجداول ــ لكى تعلن أن الشعب الذى قام بثورة ونجح فى إسقاط النظام لا يزال مُصرا على استكمال مشوار الديمقراطية إلى نهايته وعدم إهدار فرصة المشاركة فى صنع القرار. هذا هو النجاح الحقيقى للانتخابات بغض النظر عن الفائز بأغلبية المقاعد فى البرلمان. وفى اعتقادى أن هناك حقيقة تغيب عنا كثيرا حينما ننشغل بصراعات الأحزاب وتحالفاتها وبالجدل حول قانون الانتخابات، وهى أن العنصر الرئيسى الذى يحدد نجاح الانتخابات أو فشلها هو الإقبال الشعبى على المشاركة فيها لأنه يكون عندئذ اقتراعا ليس فقط على من يحظى بأغلبية المقاعد فى البرلمان، وإنما يكون أيضا تصويتا على مصداقية وشرعية الانتخابات ذاتها.
انتخابات عام 2010 لم تسقط لأنها كانت مزورة فقط ولا لأن الحزب الوطنى خاضها بكل أسلحة الدولة المشروعة وغير المشروعة، بل لأن الناس شعرت وأدركت منذ البداية أنها سوف تكون مسرحية هزلية لا شأن لها بما يريده الشعب.
وتقديرى أنه بغض النظر عن مساوئ قانون الانتخابات المصرى والتى أخذت نصيبها الكافى من النقد والتعليق، وعن الانقسامات والخلافات داخل الأحزاب والقوى السياسية، فإن الناخبين فى مصر راغبون فى المشاركة فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، وسوف يقبلون عليها بالفعل لذات السبب الذى شهدته تونس، أى من أجل التأكيد على حقهم فى المشاركة والشعور بأن الثورة وما أعقبها من ظروف انتقالية صعبة لم تذهب هباء، بل منحتهم حقا لن يفرطوا فيه بسهولة. من هذا المنظور فإن الانتخابات المقبلة تتيح أربع فرص أساسية لا يجب علينا إهمالها.
الفرصة الأولى أن الانتخابات هى الطريق الوحيد الواضح للخروج الآمن من المرحلة الانتقالية التى لم يعد من الممكن استمرارها. لا اقتصاد البلد يتحمل المزيد من التأجيل ولا مصالح الناس يمكن تعطيلها ولا الحكومة الحالية يجب أن تستمر طويلا فى حالة الشلل التى أصابتها. والخروج من المرحلة الانتقالية لن يكون إلا بانتخابات حرة. البديل الآخر هو فشل التجربة الديمقراطية التى لا تزال فى مهدها ولجوء الناس للمطالبة بحكم عسكرى مباشر باعتباره الملاذ الأخير من الفوضى. ليس أمامنا إذن إلا الإصرار على أن تنعقد الانتخابات بنزاهة وبسرعة وبسلامة ــ مهما كانت عيوب نظام إجرائها ــ حتى يمكن البدء فى الخروج من المرحلة الانتقالية نحو حكم مدنى ديمقراطى.
الفرصة الثانية التى تتيحها الانتخابات المقبلة أنها تمنح الأحزاب سبيلا للخروج هى أيضا من مرحلتها الانتقالية التى لم تكن أكثر نجاحا. فقد استنفدت الأحزاب الجديدة والقديمة قواها فى الأشهر الأخيرة فى صراعات داخلية وجدل فيما بينها ومفاوضات مع المجلس العسكرى دون نتائج واضحة، الأمر الذى أدى إلى اهتزاز صورتها أمام الجماهير. كل هذا والناس تنتظر أن تسمع من الأحزاب شيئا مفيدا عن برامجها الاقتصادية والاجتماعية وأن ترى مرشحيها فى الدوائر وليس فقط فى البرامج التلفزيونية وأن تشعر بأن هناك من يهتم بسماع شكواها ومقترحاتها. لذلك فإن الانتخابات فرصة للأحزاب وللمرشحين لتعويض ما فات فى الوقت القليل المتبقى ولإثبات أن لديهم برامج، وأن مرشحيهم يمكنهم الاتصال بالناس، وأن العمل الجماهيرى لا يزال أساس التنافس السياسى. الانتخابات فرصة للأحزاب لكى تستعيد ثقتها وترابطها وتتجاوز الانقسامات والخلافات التى أصابتها فى مرحلة مبكرة وتشحذ طاقاتها فى كسب أصوات واهتمام الناس.
أما الفرصة الثالثة التى تأتى مع الانتخابات فهى أنها سوف تجعلنا ــ وللمرة الأولى ــ نتعرف على الوزن النسبى الحقيقى للقوى والتيارات السياسية فى الشارع المصرى وعلى موقف الجماهير من القضايا السياسية والاقتصادية المطروحة على الساحة. فى بداية الثورة كان من الممكن اعتبار المليونيات مقياسا للتعبير عن الضمير الجمعى للشعب حينما كانت القضايا المطروحة واضحة وغير خلافية وقادرة على جمع الملايين حولها بالفعل. ولكن مع تباين مواقف الأحزاب من القضايا الكبرى وادعاء كل منها أنه يمثل رأى الأغلبية ــ المتكلمة أو الصامتة ــ صار من الضرورى أن نتعرف على موقف الناس من تلك القضايا والأحزاب لأن هذا هو جوهر التحول الديمقراطى. هل تكون الغالبية للتيار الإسلامى بفرقه المختلفة؟ وهل للأحزاب المدنية من اليسار واليمين والوسط ثقل ملموس؟ وهل يعود بعض نواب الحزب الوطنى ممن يتمتعون بتأييد دوائرهم فى غياب قانون للعزل السياسى؟ كل هذه أسئلة لا تحسمها سوى الانتخابات خصوصا إذا جاءت كما نتمنى جميعا نزيهة وسليمة وبعيدة عن التزوير والرشوة.
وأخيرا فإن الفرصة الرابعة هى ما بدأت به، أى أن الناس راغبة فى المشاركة والتصويت وفى التمتع بحرية حديثة الاكتساب كما حدث فى تونس، وحرمان الناخبين من ذلك أو تأجيل مشاركتهم إلى ما لا نهاية لا يمكن أن يكون نتيجة طبيعية لثورة أطاحت بالنظام السابق تحديدا لأنه حرم الناس من المشاركة فى صنع القرار واختيار من يمثلهم.
ومع ذلك فإن أمرا واحدا يجب أن يؤدى بنا إلى رفض عقد الانتخابات أو المشاركة فيها، وهو أن تنحرف المعركة الانتخابية خلال الأسابيع القليلة المتبقية عن مسارها كما انحرفت عام 2010 وقبلها، أى أن تعود الرشوة الانتخابية لتسيطر على الساحة أو أن تعم الفوضى الأمنية أو أن يزيد التوتر الطائفى أو أن تتدخل الحكومة لمصلحة أطراف معينة بما يهدد مصداقية العملية الانتخابية بأكملها. عندئذ يصبح من الواجب الانسحاب والمقاطعة ورفض المشاركة أصلا. أما الخوف من احتمال الخسارة أو من عدم الاستعداد الكافى، فهذا لا يكفى لتعطيل الانتخابات ولا تأجيلها، بل يحتم بذل المزيد من الجهد فى الاستعداد لها.
وفى النهاية فلنتذكر أن الانتخابات المقبلة شديدة الخطورة والأهمية، ولكنها ليست نهاية المطاف ولا المعركة الوحيدة الفاصلة فى تحديد مصير الوطن، بل هى خطوة مهمة فى مسيرة طويلة وسلسلة مستمرة من المعارك التى بدأت قبل الثورة، وبلغت ذروتها فى ميدان التحرير، وتطورت إلى مليونيات متتابعة، ومرت بمعركة الدستور وقانون الانتخابات، وتحولت إلى ساحة المطالب العمالية والفئوية، ثم منها إلى حلبة انتخابات النقابات المهنية والجامعية والنوادى الرياضية، وسيعقبها الانتخابات الرئاسية ومعارك كثيرة غيرها. الانتخابات المقبلة مهمة وضرورية، ليس باعتبارها النقطة الفاصلة ولا نهاية المطاف، بل لأن العمل السياسى يتطلب استمرار المشاركة فى كل معاركه وكل مراحله مهما كان فيها من نواقص وعيوب.