رغم أن الأخذ بالأسباب مقدم على دفع الضرر - كما تقول القاعدة الفقهية - لذلك لم أتفهم حتى الآن ما هو الضرر الذى دفع لجنة العشرة الموقرة والمكلفة بتعديل الدستور، وحتى لجنة الخمسين، لإلغاء نصوص فى دستور 2012 كانت تستحق أن يتم الإبقاء عليها، فى حين تم الإبقاء على بعض المواد الأخرى التى كانت تستحق تعديلا جذريا وإن لم يكن حتى الإلغاء. وأخص بالذكر هنا حتى لا تختلط الأوراق قضايا التعليم المصرى المهمشة فى الدستور قديمة وموقوفة ومعدلة على حد سواء.
فالمتابع لمناقشات المسودة الأولى التى على وشك الصدور، سيلاحظ مدى الجهد المبذول لإخراج وثيقة ترضى كافة الأطراف حتى المتناقض منها. خاصة فى القضايا السياسية والعسكرية، والتى برغم من الإقرار بأهميتها القصوى فى المرحلة الحالية، إلا أنه لا يجوز أن تحتل وتستحوذ على كل النقاش فى كل المنتديات بينما تهمش قضايا المجتمع المصرى الحقيقية.
فقد حملت أولى مفاجآت المسودة الإقرار بعدم أهمية التعليم الوطنى وضرورة إنشاء مجلس قومى له، ومن ثم تم إلغاء المادة 214 من دستور 2012 والتى تنص على "يختص المجلس الوطنى للتعليم والبحث العلمى بوضع إستراتيجية وطنية للتعليم". أعلم أن البعض سوف يسارع بالقول والتبرير بأن هذا النص ليس مكانه الدستور، وأن الإخوان قد أقحموا هذه المادة فى نصف ليل يوم إقرار الدستور بهدف المزيد من التمكين والسيطرة على عقول هذه الأمة من بوابة التعليم. وهذا بالفعل صحيح وتمت الإشارة له فى حينه. ويمكن الرجوع هنا إلى مقالى فى جريدة الشروق فى يناير الماضى بعنوان "مجلس وطنى للتعليم أم للتمكين".
وهنا نتساءل ألم يكن من الأفضل الإبقاء على فكرة المجلس وتعديل المادة لإزالة الحشو الضار منها بدلا من حذف المادة كليا، رغم أن المجلس الوطنى للتعليم يمثل مطلبا ملحا للعديد من المفكرين والمثقفين المهتمين بالشأن المستقبلى للتعليم.
•••
والأكثر غرابة فى المشهد أن نفس الدستور يحتوى على العديد من النصوص التى تنظم تشكيل مجالس عليا وغيرها، فى حين أن القضية المركزية للعبور للمستقبل، ألا وهى التعليم، لا ينظمها مجلس وطنى وإنما يترك أمرها لكل وزارة أو وزير ينشئ له مجلس أعلى بوزارته، فنرى مجلس للتعليم قبل الجامعى يقرر إلغاء الصف السادس ثم يوافق على عودته!؟.. وكذلك فى إقرار امتحان الثانوية العامة على عامين، ثم العودة إلى نظام العام الواحد!؟.. والأمر كذلك فى المجلس الأعلى للجامعات الذى أنشئ فى عام 1955 بهدف التنسيق بين الجامعات، وانتهى به الحال إلى عكس الهدف الذى أنشئ من أجله. وهو ما نلاحظه أيضا على المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا والخاص بقضيا البحث العلمى.
وبالتالى فإن أى تطوير لمنظومة التعليم المصرى بكل أدواته وأسمائه – لن يجدى ما لم يتم إصلاح بيت الداء ويكون ذلك من خلال وجود مجلس أعلى وطنى يشرف على سياسات التعليم والبحث العلمى بعيدا عن وزارات التعليم وهيئاتها. ويقوم هذا المجلس بمهمة التخطيط الاستراتيجى، مثل ما هو المطلوب لشكل مصر بعد 10 سنوات مثلا، أى لطالب الحضانة الآن وحتى تخرجه فى الجامعة. كما لابد أن يبحث المجلس ويحل الأزمة الحقيقية التى يعيشها المجتمع من تعدد نظم التعليم، ما بين تعليم حكومى ينقسم بدوره إلى فئات متعددة من لغة عربية إلى إنجليزية إلى نظم مناهج دولية، بالإضافة إلى مدارس خاصة ولغات ودولية وتعليم أزهرى.
وهو ما ساهم فى تعميق الانقسام وعدم الانتماء فى المجتمع وكذلك يكون من مهام المجلس وضع المناهج التعليمية بحيث لا يترك للأفراد والهيئات العبث كل عام بهذه المناهج. ومن أجل أن يصبح هذا المجلس – وهو ضرورة – مجلسا استراتيجيا، لابد وأن يتكون من مفكرى ومثقفى وعلماء مصر من خارج المناصب الرسمية، ويكون أعضاء الحكومة مهما تغيروا أعضاء بحكم الوظيفة. ومن هنا سيتم توفير الرقابة اللازمة على أداء وزارات التعليم مهما تغير انتمائهم السياسى، حيث تغيب حاليا أى رقابة فعلية على أداء وزارات التعليم، لغياب المخطط الاستراتيجى الذى يكون على أساسه الحساب. وكذلك يكون من مهام المجلس وضع الأولويات للنهوض بالتعليم والبحث العلمى بعد أن أصبحت مصر فى أسفل التصنيفات العالمية فى كل المجالات من التعليم الابتدائى إلى البحث العلمى.
•••
وما يلفت النظر كذلك فى تهميش مواد التعليم، هو أن مشروع لجنة العشرة نقل حرفيا (مع تعديلات طفيفة للغاية من حيث الشكل) أرقام المواد من 58 وحتى 61، لتصبح أرقامها من المادة18 حتى 21، تماما مثلما كان وضعها فى دستور 1971، مع حذف بعض الكلمات من هذه المواد ولكنها مع عظيم الاحترام للجهد المبذول فإنها لم تغير شيئا من حيث الجوهر وحافظت على كل ألوان الطيف التى كانت تضمها هذه المادة، فأبقت على التعليم الإلزامى حتى مرحلة الاعدادية، وربطت المجانية بنفس الكلمات. وذلك يدعو للتساؤل، لماذا نبقى على رؤية وفلسفة تيار الإسلام السياسى للمستقبل رغم أن العديد يطالب بعكس ذلك؟
فوجود التعليم الإجبارى حتى المرحلة الاعدادية فقط يتماشى مع الرؤية الاقتصادية اليمينية لتيار الإسلام السياسى والمتمثل فى عدم التزام الدولة بالتعليم والإنفاق عليه، وكذلك مع دعوة هذا التيار للزواج المبكر للإناث قبل الذكور. ولكن هذه الرؤية "غير التربوية أو الاقتصادية" ليس من المقبول استمرار العمل بها فى الدستور الجديد والذى يجب أن ينص على مد التعليم الإلزامى حتى نهاية المرحلة الثانوية. كما يتناسب ذلك أيضا مع ما اتخذته الحكومة الحالية من خطوات لصالح الفقراء مثل إعفاء طلاب المدارس الحكومية من المصروفات.
لاسيما وأن واقع الحال يقول أن الطبقات المتوسطة وما يدور فى فلكها والأغنياء يكملون تعليمهم اجباريا حتى الجامعة من خلال التعليم بمصروفات، بينما التعليم الثانوى والعالى هو اختيارى لأبناء الفقراء نظرا لتكلفته الأعلى. وبناء عليه، فإن مد التعليم الإلزامى حتى المرحلة الثانوية هو لصالح الغالبية العظمى من أبناء مصر. كما أن هذا سوف يساهم فى الترويج لصالح الدستور الجديد. كما أننا نقترح أن يبدأ التعليم الإلزامى من مرحلة الحضانة أسوة بكل دول العالم، حيث اتضح أن معدلات ذكاء الأطفال تقل بعد بلوغ سن السادسة. ولذك يقترح أن يكون نص المادة "التعليم هو حق لكل مواطن تكفله الدولة. وإلزامى من مرحلة رياض الأطفال وحتى نهاية مرحلة التعليم قبل الجامعى".
كذلك لا بد وأن تفصل مادة "مجانية التعليم" لتصبح مادة مستقلة كما كانت فى دستور 1971 وألا يتم دمجها فى مواد التعليم.
•••
واذا انتقلنا لمواد التعليم ومراكز البحث العلمى فيجب أن تعود كلمة "تكفل الدولة" إلى صدارة المادة 19 بدلا من نقل المادة فى دستور 2102 كما فعلت لجنة العشرة، لأن تيار الإسلام السياسى صاغ المادة بحيث يمكن أن يؤدى إلى العبث باستقلال الجامعات مستقبلا، وهو ما كان أحد أهدافهم المعلنة وليست طبقا لنظرية المؤامرة.
أما المادة الخاصة بمحو الامية، ورغم التعديل الذى أدخلته لجنة العشرة، فهو تغير مبهم وفضفاض يبدو أن الهدف منه هو رفع الأعباء والتزام الدولة تجاه هذه القضية، ولكنه لا يحل قضية القضاء على الأمية التى يمكن أن يكون أحد الحلول هو الإلزام بالحصول على شهادتها عند العمل أو صرف الدعم مثلا مثلها مثل الحصول على شهادة التجنيد.
تلك كانت بعض الملاحظات على ما تيسر من تسريبات عمل لجنة الدستور الموقرة حيث نأمل أن تحظى قضية التعليم بالاهتمام الكافى على اعتبار أنها قضية وجود وليست حدوداً.