كم من المواقف المعادية لحقوق وقضايا وطموحات الأمة العربية يجب أن تقفها، بتحدٍ وعجرفة، سلطات القرار الأمريكية حتى تنقشع الغشاوة عن عيون المسئولين العرب فى شتى دولهم، ويدركوا أن الموضوع ما عاد مجرد اختلافات فى الرأى، قابلة للأخذ والرد، حول تلك القضايا والحقوق والطموحات العربية، وإنما هى هجمة استعمارية أميركية على أمة العرب ووطنها الكبير؟
لقد أصبحت أمريكا تدير كل صغيرة وكبيرة فى أرض العرب. الوزراء والمبعوثون الأمريكيون يجوبون عواصم الوطن العربى ليقدموا ما يدعون كذبا النصائح، بينما هى فى الحقيقة أوامر وتهديدات مبطنة تعقبها أشكال لا تحصى من العقوبات البنكية والتجارية بحق الأفراد والشركات والأحزاب والحكومات العربية. اليوم يجلس هؤلاء الأمريكيون فى عواصم مثل بغداد وبيروت، حيث الحراكات الجماهيرية تجوب الشوارع، ليعلنوا ما يوافقون عليه وما يرفضونه، لكأن عواصم بلاد العرب قد أصبحت بلدات فى ولايات كاليفورنيا أو ألاباما، ولكأن الحراكات الشبابية العربية هى مظاهرات طلابية فى إحدى الجامعات الأمريكية.
نحن نعلم أن ما يحدث لنا هو جزء من التعامل الحالى الأمريكى المجنون الهائج مع العالم كله. لكن لا توجد بلاد واحدة فى هذا العالم مستباحة ومحتقرة وذليلة وعاجزة أمام الصلف الأمريكى الحالى كما هو الحال فى بلاد العرب.
أما المواقف الأمريكى من كل الموضوع الفلسطينى برمته فقد وصلت إلى مستويات عهرية، خارجة على كل القيم الإنسانية وعلى كل الممارسات الأخلاقية، حتى فى حدودها الدنيا، بحيث أصبحت أميركا كيانا صهيونيا عولميا ينافس الكيان الصهيونى فى فلسطين المحتلة فى جرائمة الإنسانية البشعة تجاه شعب أعزل محاصر محتلة كل ذرة من أرضه وبحاره وسمائه.
لا يقف هذا الموقف العربى الذليل المتهالك تجاه أمريكا فقط. فلقد أصبحت دول إقليمية قادرة على ممارسة نفس التدخلات والإملاءات والاستباحة. فتركيا تتصرف فى الشمال السورى العربى وكأنه قطعة من الأناضول التركى أو من أملاك الإمبراطورية العثمانية فى أيام مجدها وجبروتها.
وإيران تعطى التوجيهات بشأن ما هو مسموح وغير مسموح فى أرض العراق، لكأن بغداد قد أصبحت ضاحية من ضواحى طهران. وفى كل يوم يتوجه المسئولون العراقيون إلى طهران لاستلام النصائح ويأتى فلان أو علان الإيرانى المسئول إلى بغداد ليعطى الأوامر.
وينطبق الأمر، بصور شتى وبمستويات متعدُدة، على التعامل الروسى والفرنسى والصهيونى والإنجليزى مع مختلف القضايا العربية، عبر الوطن العربى كلُه.
فما هو الرد العربى على كل ذلك؟
إنه لا يزيد عن بيانات مقتضبة آسفة ومترجية من قبل هذه الحكومة أو تلك، عندما يكون الأمر ماسا بها، أو عن بيانات كلامية متأسفة صادرة عن الجامعة العربية، المبعدة بقصد وتربص عن أن يكون لها دور فاعل فى حياة العرب.
هذا المشهد المأساوى يحرك النخوة فى رئيس الوزراء الماليزى فيدعوا إلى اجتماع، دعنا من تفاصيل الخلافات حول حضوره ومقاطعته ومعالجاته، لمناقشة ما وصل إليه الحال المفجع المخجل بالنسبة للعالم الإسلامى.
إنه بحسه السياسى المتميز يعرف أن مواجهة ذلك الحال يحتاج إلى جهد إسلامى مشترك لا قبل لدولة إسلامية واحدة بحمل مسئولياته.
أما فى بلاد العرب فلم يقتنع أحد بعد بأن الأوضاع العربية السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية قد وصلت إلى حدود الموت السريرى البطىء، وأن الجثة العربية هى الآن ترقد بانتظار الدفن من قبل أعداء هذه الأمة، وعلى الأخص حفار القبور الأمريكى.
وإلا، فهل يعقل بأن وضعا كهذا لم تدع قمة عربية طارئة للنظر فى مواجهته والخروج منه؟ هل يعقل أنه لا يوجد، فى طول وعرض وطن العرب، ثلاثة رؤساء دول، بوعى تاريخى وغيرة ونخوة وضمير حى، يطلبون اجتماعا طارئا لقمة عربية تجتمع للنظر فى استراتيجية مشتركة، حتى ولو مؤقتة، تقول لتلك الدول الناهشة للحم أمة العرب، والتى تلغ فى دمائها كل يوم، بل فى كل لحظة، تقول لها «كفى»؟
لنحدد السؤال أكثر: هل ننتظر من رؤساء الدول الجدد المنتخبين بصور ديموقراطية غير مزيفة، بالمبادرة بتقديم مثل هذا الطلب، لعلهم يجنبون أمة العرب مواجهة لعنات السماء والتاريخ، بعد أن ارتكبت بعض أنظمة الحكم العربية، عبر عشرات السنين، من الأخطاء والخطايا، من العبث والاستهتار، ما يبرر تلك اللعنات؟
والجماهير المليونية التى تجوب الشوارع والساحات، متى ستدرك أن حل مشاكلها المعيشية، التى تستحوذ على كل اهتماماتها، مرتبطة أشد الارتباط بالخروج من ظاهرة استباحة الخارج لكل جانب من جوانب الداخل العربى، فتطرح مواجهته كشعار من شعاراتها الأساسية؟