من يُرد أن يتنبأ بمستقبل الاقتصاد المصرى، لابد أن يستعيد ما حدث فى الماضى. صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكننا يجب أن نستفيد منه. بل يكاد أن يكون من المستحيل أن نتنبأ بأى شىء إذا لم تكن لنا أى معرفة بالتاريخ. لقد لخص رجل حكيم وظريف الرأى الصحيح فى هذا الأمر بقوله «التاريخ لا يكرر نفس النغمة، ولكنه أيضا لا يأتى بنغمة شاذة!» «It Rhymes».
بناء على ذلك، عندما سألت نفسى عما يمكن أن ينتج عن الأزمة (أو المحنة) الاقتصادية الحادة التى تمر بها مصر الآن، استرجعت ما يمكن أن تكون مصر قد مرت به من أزمات مشابهة خلال الخمسين عاما الماضية، فوجدت ثلاثا: الأزمة التى حلت فى أعقاب الهزيمة العسكرية فى 1967، وأزمة شديدة فى النقد الأجنبى فى منتصف عهد السادات (74/1975)، ثم العجز عن سداد الديون الخارجية فى موعدها فى 86/1987. كان لكل أزمة من هذه الأزمات الثلاث ظروفها وأسبابها الخاصة، كما أن لأزمتنا الحالية ظروفها الخاصة، ومع ذلك، فإن هناك درسا مهما يمكن استخلاصه من الأزمات السابقة مما يسمح لنا بتوقع بعض الأشياء فيما يتعلق بأزمتنا الحالية.
•••
كانت أزمة الستينيات نتيجة مباشرة للهزيمة. أُغلقت قناة السويس، فتوقفت الإيرادات التى كانت تأتى منها، وجف مورد السياحة، ووقعت آبار البترول فى سيناء فى يد إسرائيل، وكانت المعونات الآتية من الغرب قد توقفت فى نفس السنة التى وقعت فيها الحرب، ناهيك عن الحاجة إلى إعادة تأهيل القوات المسلحة، وإعادة توطين المهاجرين من مدن القناة الثلاث.
كانت أزمة منتصف السبعينيات نتيجة حدوث تطور غير متوقع فى الأسعار العالمية للقمح، فى ظل ظروف اقتصادية سيئة فى الداخل. إذ ارتفعت أسعار القمح الذى تعتمد مصر على استيراد معظم ما تستهلكه منه، ارتفاعا شديدا، بسبب نقص كبير فى الإنتاج السوفييتى، وقيام الاتحاد السوفييتى بشراء كمية كبيرة من القمح فى السوق العالمية. أما أزمة الثمانينيات فكانت نتيجة تراكم الديون الخارجية فى عهد السادات، وإلى درجة أقل فى السنوات الخمس الأولى من عهد مبارك، وكانت ديونا ذات أسعار فائدة باهظة، ولم تكن قد استخدمت استخداما يولد عائدا كافيا يمكن مصر من سداد الأقساط ودفع الفوائد.
أما الأزمة الاقتصادية الراهنة فتكاد أن تكون أسبابها كلها سياسية: تدهور حالة الأمن وفقدان الاستقرار السياسى أضرا بالسياحة والاستثمار المحلى والأجنبى، والنقل والمواصلات، ومن ثم الإنتاج والعمالة ومعدل النمو.. الخ
•••
الأسباب مختلفة جدا، كما ترى، بين أزمة وأخرى، ولكن انظر كيف كان خروج مصر من الأزمات الثلاث السابقة كلها بسبب تدخل خارجى. كان الخروج من أزمة الستينيات عن طريق اتفاقية الخرطوم (1968) التى حصلت مصر بمقتضاها على معونات سخية من دول البترول العربية. أما أزمة منتصف السبعينيات فكان الخروج منها بعودة المعونات الغربية، وعلى الأخص من الولايات المتحدة، وارتفاع أسعار البترول الذى فتح الباب أمام المصريين للهجرة إلى الدول العربية الغنية به، وأما أزمة 86/1987 فكان حلها باللجوء إلى نادى باريس، حيث أعيدت جدولة الديون المصرية، ثم بقيام الولايات المتحدة فى 1990 بإعفاء مصر من نصف الديون المستحقة لها.
الخروج من الأزمات الثلاث كان دائما بأيد خارجية، وهو ما يمكن تفسيره ببساطة بأنه ليس من مصلحة القوى الخارجية ذات الشأن (بما فى ذلك الدول العربية الغنية) أن تُترك مصر لتغرق تحت وطأة أعبائها الاقتصادية.
مصر فى نظرهم أهم من ذلك، لأسباب لا نحتاج للخوض فيها، ولكن مصر أيضا دولة أشد خطرا من أن تُترك وشأنها لتمارس إرادتها المستقلة، وتعتمد على نفسها، للنهوض من عثرتها، وذلك لأسباب معروفة ولا حاجة أيضا للخوض فيها.
هكذا كان خروج مصر من الأزمات الثلاث السابقة، فالأرجح أن يكون هذا هو المخرج من أزمتنا الحالية أيضا.
سوف يكون المخرج هذه المرة أيضا بأيد خارجية، لا لأن مصر ليس لديها من الموارد المادية والبشرية ما يمكنها من الاعتماد على نفسها، ولكن لأنها حتى الآن لم يتوافر لها القيادة القوية والحكيمة التى تمكنها من ذلك. هكذا إذن يجب أن نقرأ هذه التحركات المستمرة جيئة وذهابا، لمسئولى صندوق النقد الدولى، والإدارة الأمريكية، ودول البترول العربية، منذ أن استحكمت الأزمة الاقتصادية الحالية فى مصر. مصر يجب ألا تُترك للغرق، ولابد من أن يلقى إليها بحبل النجاة، ولكنها أيضا يجب ألا تُترك حتى تكتشف وحدها كيف تنقذ نفسها.
•••
ولكن ياليت الأمر يقتصر على ذلك: خطر الغرق ثم الإنقاذ من الخارج فى اللحظة المناسبة. فى كل حالة من الحالات السابقة كان للإنقاذ ثمن، بل وثمن باهظ، سياسى واقتصادى. ولابد أن نتوقع الأمر نفسه فى هذه المرة أيضا، مادمنا لانزال نفتقد القيادة القوية والحكيمة التى تحاول ممارسة حرية الإرادة.
فى الأزمة الاقتصادية التى ترتبت على هزيمة 1967، كان الثمن الذى دفعته مصر لانتشالها من الغرق هو أن تهجر إلى الأبد أى حديث عن القومية العربية والوحدة، وأن تترك نظم الحكم فى بلاد البترول وشأنها، وتنصرف لأمورها الخاصة.
وفى أزمة 74/1975 كان الثمن السياسى الفادح هو إبرام صلح غير مشرف مع إسرائيل، وفى معزل عن الدول العربية الأخرى. ولكن كان هناك أيضا ثمن اقتصادى، هو الانفتاح الاقتصادى على الغرب، بسلعه ورءوس أمواله، وهى السياسة التى طبقت بحماقة بالغة استحقت بسببه وصف «الانفتاح سداح مداح».
أما أزمة 86/1987 فكان ثمن الإنقاذ فيها توقيع اتفاقية 1991 مع صندوق النقد الدولى لتطبيق ما عرف «بالتكيف الهيكلى»، ويتضمن السير قدما فى طريق الخصخصة، أى بيع القطاع العام، وتحرير الأسعار، بما يتطلبه ذلك من تخفيض شديد فى الدعم وتخفيض سعر الصرف.
ما الثمن الذى سوف يطلب منا هذه المرة لإنقاذنا من الأزمة الاقتصادية التى تولدت من سوء إدارة البلاد خلال السنتين الماضيتين والتاليتين لثورة 25 يناير؟
كنت أظن فى البداية عندما سمعنا عن استعداد صندوق النقد الدولى لتقديم قرض (دون أن يقال لنا أى شىء عن شروطه) أن الشروط لن تزيد عن مزيد من تخفيض الدعم وتخفيض جديد لسعر الصرف. وقلت لنفسى إنه ليس من الصعب على الحكومة، حتى فى ظروفها الراهنة، التخفيف من ضغط الصندوق علينا فيما يتعلق بتحديد مقدار التخفيض فى الدعم، وما يشمله وما لا يشمله من سلع، ومقدار التخفيض فى سعر الصرف. ولكننا فوجئنا بشىء اسمه «الصكوك الإسلامية»، يُطرح علينا دون مقدمات، ويوافق عليه مجلس الوزراء دون نقاش، ويعرض على الأزهر لإقراره وكأن المسألة دينية، ثم يعرض على مجلس الشورى لإصداره دون انتظار لمجئ مجلس الشعب المنتخب. ما كل هذا الاستعجال؟ ولماذا هذا الحرص على إسباغ رداء الدين عليه؟ هل فشلت تسمية صكوك محمود محيى الدين «الشعبية»، فأطلق عليها اسم أقوى هو «الصكوك الإسلامية»؟ وما كل هذا الغموض فى نصوصه، والتقصير فى شرحه وتوضيح الغرض منه؟ هل هذا القانون هو يا ترى جزء مهم من الثمن الذى يُطلب من مصر أن تدفعه الآن لانتشالها من الغرق؟ بيع مشين لبعض المرافق العامة الحيوية التى يجب أن تظل فى يد الدولة، تحت غطاء من تمييز سخيف بين ملكية الدولة العامة وملكية الدولة الخاصة؟
هل وصل الأمر إذن إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يكون قد رُؤى من المفيد أن تقوم بهذه المهمة حكومة تنسب نفسها إلى الدين؟ وهل يسمح الدين حقا، أى دين، باستخدام مثل هذه الحيل والألاعيب؟