الدول متوسطة القوة يقاس موقعها وتأثيرها فى النظام الدولى بدورها ومكانتها فى النظام الإقليمى الذى تندرج فيه. هذه فرضية أساسية فى العلاقات الدولية وهى ترجع إلى أن الأنظمة الإقليمية ما هى إلا أنظمة فرعية فى النظام الدولى. من حظ مصر أنها تندرج فى عدة أنظمة إقليمية، أهمها على الإطلاق النظام العربى والنظام الإفريقى. النظام الإفريقى، وإن لم تتحقق أهدافه كما تنص عليها مواثيقه، هو نظام مستقر إلى حد بعيد، والأنظمة دون الإقليمية الموجودة فى القارة تصب كلها فيه كما يَرِد فى نفس هذه المواثيق. فى المقال السابق منذ أسبوعين، تطرقت هذه المساحة إلى ضرورة انتهاج سياسة لتدعيم موقع مصر فى النظام الإفريقى بغية تحقيق أهدافها النهائية فى القارة وتعزيز مكانتها فى النظام الدولى عموما.
مقال اليوم هو عن مصر فى المنطقة العربية ومواقفها من قضاياها ومسائلها القديمة منها والمستجدة، وعن المبادئ التى حكمت هذه المواقف والسياسات التى اتبعتها. فى مناقشة الموضوع سننصب بالتعليق على قضية قديمة وعلى مسألة مستجدة فى عالمنا المعاصر، ألا وهما القضية الفلسطينية والصراع فى منطقة الخليج بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة خصوصا، من جانب، وإيران، من جانب آخر. مشروعٌ أن يتساءل البعض من بيننا ولماذا لا تتغير المبادئ والمواقف إن كانت قد فشلت فى تحقيق مبتغاها وإن كانت إمكانيات للنجاح تكمن فى مبادئ ومواقف جديدة؟ ولكن طالما السؤال مشروع فالرد عليه هو أيضا كذلك.
***
بشأن القضية الفلسطينية الرد على السؤال هو بسؤال آخر. هل فى التسليم الفعلى بكل ما فعلته وتفعله إسرائيل وتخطط له وعدٌ بأن ينشأ السلام فى المنطقة بحيث تتفرغ دولها للتنمية ورفع مستويات المعيشة ولإقامة أنظمة سياسية تتسم بالمشاركة فى رسم السياسات ثم المراقبة على تطبيقها، أى بعبارة أخرى لإقامة أنظمة ديمقراطية؟ ضم إسرائيل للقدس، وأول اعتراف دولى بشرعية هذا الضم حين نقل الرئيس الأمريكى سفارة الولايات المتحدة إليها، لا يؤدى إلى تحقيق هذه الأهداف. هل ما تريده إسرائيل من اعتراف بضم الجولان يؤدى إلى تحقيقها؟ وهل يحققها الإعلان عن إسرائيل دولة لليهود، وهو ما يكرس العرب المسيحيين والمسلمين الحاملين لجنسيتها مواطنين من الدرجة الثانية المعرضين للتمييز المقنن بل وللترحيل إذا تهيأت الظروف لذلك؟ قد يقول قائل وما بال مصر فهى لم تعترف لا بشرعية ضم القدس ولا بشرعية ضم الجولان. هذا صحيح، ولكن إسرائيل تجد نفسها وقد كوفئت على رغبتها فى تكريس ضم القدس والجولان وعلى الإعلان عن نفسها دولة لليهود بتكثيف التعاون معها ثم بالإعلان فى القاهرة عن إنشاء منظمة دون إقليمية تشترك هى فى عضويتها لأول مرة مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، ألا وهى منتدى الغاز لشرق المتوسط. يلاحظ أن هذا المنتدى نشأ بينما يوجد نزاع مكبوت على الغاز الموجود فى جوف البحر المقابل لهما ما بين لبنان وإسرائيل. الدولة الإقليمية الكبرى التى تريد أن تجنى ثمار أنها الكبرى، إقليميا ودوليا، عليها مسئوليات تجاه دول وشعوب إقليمها. الثمار تتعدى تكلفة المسئوليات. انظر إلى وضع مصر والمصريين فى العقود الأربعة الماضية على الأقل فى النظام المؤسسى الدولى، وانتبه إلى ريع مكانتها ومواقفها ومسئولياتها الإقليمية الذى جنته إلغاء للديون، ومساعداتٍ من الولايات المتحدة وغيرها، ومن المؤسسات الدولية.
***
المسألة المستجدة نسبيا هى الصراع فى منطقة الخليج. بدلا من أن تخمد الولايات المتحدة فى عهد الرئيس ترامب النار التى تهدد بالاشتعال فى الخليج، فهى تنفخ فيها بكل قوتها، ولنقل مرورا، فى الوقت الذى تريد فيه إطفاء جمرات مقاومة الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية بل وتكريس هذا الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه. فى القاهرة، منذ أسبوعين مضيا، كان هذا مضمون الخطاب الذى ألقاه وزير الخارجية الأمريكية، مايك بومبيو، فى الجامعة الأمريكية. وهو فى إبلاغه لرسالته عن الولايات المتحدة «كقوة للخير فى المنطقة» أعطى مشاركة الولايات المتحدة فى تحرير الكويت من قوات الرئيس صدام حسين مثالا على هذا الخير، وتساءل «هل يمكن للروس وللصينيين أن ينقذوكم بهذا الشكل»، ثم هو شدد على إنشاء التحالف الاستراتيجى للشرق الأوسط الذى يجمع دول مجلس التعاون الخليجى والأردن ومصر، وهو تحالف ينشأ لمواجهة إيران. ليس المرام تحليل خطاب الوزير الأمريكى، وعلى أى حال فهو، بخلاف كلام متناثر هنا وهناك، ليس فيه أكثر مما ورد فى السطور السابقة، ولكننا نتساءل أولا هل تريد مصر، من منظور النظام الدولى، أن توضع فى موضع المفاضلة بين الولايات المتحدة، من جانب، وروسيا والصين، من جانب آخر؟ ليس لمصر مصلحة فى الالتصاق بأى من الدول الثلاث الكبرى ولكن لا مصلحة لها كذلك فى تقديم إحداها على الأخرى ولا معنى أساسا لإجراء هذه المفاضلة. أما عن التحالف الاستراتيجى للشرق الأوسط فالسؤال الذى قد يعن لمن تروقهم فكرة التحالف هو كيف ستجتمع فيه السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع قطر، مع ما بين الدول الأربع الأولى والأخيرة من شقاق ومقاطعة وشبه حصار. وماذا سيكون عليه موقف الكويت وعمان من معاداة إيران؟ غير أن ما يهمنا هو موقف مصر من التحالف وأثره على النظام العربى. كما ورد منذ شهور فى هذه المساحة، فإن سياسة مصر منذ العهد الملكى هى عدم الانضمام إلى الأحلاف العسكرية التى تشترك فيها الدول الكبرى. ولكن ربما رد أحدهم، وهو رد مشروع أيضا، ولماذا لا تتغير هذه السياسة؟ بالفعل، السياسات والمواقف قابلة للتغيير والأمثلة على ذلك كثيرة. غير أنه لا الثبات ولا التغيير فضيلة فى حد ذات أى منهما. التغيير تحكمه المصلحة والأهداف. أى مصلحة وأى أهداف يمكن أن تتحقق لمصر من إنشاء مثل هذا التحالف؟ تحالف يتمحور حول منطقة الخليج لا يمكن أن تلعب فيه مصر إلا دورا ثانويا فى مؤازرة الأعضاء الرئيسيين فيه، إن سلمنا جدلا بسلامة فكرة هذا التحالف. مثل هذا التحالف سيقضى تماما على النظام العربى وعلى مؤسسته الرئيسية، وهى جامعة الدول العربية، بل هو سيكون حتى حائلا دون قيام نظام شرق أوسطى بديل للأمن والتعاون. السعودية والإمارات يمكن أن تستغنيا عن جامعة الدول العربية وعن النظام العربى. ثروة النفط فى كل منهما تسمح بذلك، وتمكناهما من التحرك فى النظام الدولى بقدر غير قليل من الحرية. ولكن هل تستطيع مصر؟ مصر تنشئ مصادر قوتها. المصادر الخارجية لهذه القوة تكمن فى أصول معنوية، غير مادية وغير ملموسة. الأنظمة الإقليمية التى تنتمى إليها مصر، خاصة تلك التى استثمرت فيها وشكلتها هى ومواطنوها، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، هى من بين هذه الأصول غير المادية وغير الملموسة الرئيسية.
***
النظام الإقليمى العربى، نظام مترنح، ومؤسسته الرئيسية، جامعة الدول العربية، فى حالة يرثى لها، والقمة الاقتصادية الأخيرة فى بيروت بيان مؤسف على ذلك. ولكن على الرغم من هذا الترنح ومن هذه الحالة المؤسفة، يبقى أن النظام الإقليمى العربى هو أهم مصادر القوة المحتملة لمصر بما ينطوى عليه من أصول غير مادية وغير ملموسة كونتها خلال القرنين الماضيين على الأقل؛ لأنها استثمرت فيه أكثر مما استثمرت فى أى نظام إقليمى آخر تنتمى إليه. هذه حقيقة فى نظر العالم كله، التفريط فيها هو تبديد لمكتسبات مادية وغير مادية يمكن أن تتحقق لها فى النظام الدولى فى الأمدين المتوسط والبعيد، مكتسبات تفوق ما يمكن أن يدره التحالف الاستراتيجى من مغانم قصيرة الأجل غير قابلة للاستمرار، وتعفيه مما يمكن أن يجره عليها هذا التحالف من تبعات.
الخيال المستند إلى المعرفة والتجربة هو أيضا من موارد القوة. على مصر أن تشحذ الخيال الجمعى لسياسييها ومثقفيها ولباحثيها ولقطاعها الخاص من أجل إصلاح جذرى لجامعة الدول العربية، أو لإنشاء منظمة بديلة، ولتنشيط النظام الإقليمى العربى المنفتح على العالم. وليفعل السياسيون والمثقفون والباحثون والقطاع الخاص المصريون ذلك بالتشاور والاشتراك مع نظرائهم من الدول العربية الأخرى.
نظام إقليمى عربى نشط هو وحده الذى يستطيع أن يشترك على قدم المساواة مع الدول الأخرى الواقعة فى الشرق الأوسط فى إرساء العدل والسلم والتعاون فى هذه المنطقة من العالم.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة