هل غيرت الجامعة المجتمع؟ .. الجامعة الأهلية وحرية الفكر (1) - عماد أبو غازي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 5:22 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل غيرت الجامعة المجتمع؟ .. الجامعة الأهلية وحرية الفكر (1)

نشر فى : الأحد 26 فبراير 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : الأحد 26 فبراير 2012 - 9:15 ص

 الهدف الرئيس للجامعة تغيير المجتمع، تغيير طريقته فى التفكير، الإضافة إلى قدرته من خلال المعرفة، تعظيم قوته بالعلم، فعندما تنشأ جامعة فى مجتمع من المجتمعات تتولد حالة تفاعلية بين الجامعة والمجتمع، نتاجها الأساسى مجتمع يتطور ويتقدم ويكتسب جديدا.

 

وكى تقوم الجامعة بدورها فى تغيير المجتمع لابد لها من أن تكون جامعة حقيقية، والجامعة الحقيقية لا تقوم لها قائمة إلا بالحرية؛ حرية البحث العلمى وحرية التفكير وحرية التعبير، للطلاب وللأساتذة، وجامعتنا المصرية منذ نشأتها قبل أكثر من مائة عام تعيش فى ظل أجواء من الصراع بين أنصار الحرية وأنصار المصادرة، مصادرة كل الحريات فى الجامعة، فمنذ سنوات الجامعة الأولى شهدت عدة أزمات كشفت عن أزمة الحرية فى الجامعة، التى هى جزء من أزمة الحرية فى المجتمع.

 

فهل نجحت الجامعة فى تجاوز تلك الأزمة؟

 

وهل نجحت فى تغيير مفاهيم المجتمع وقيمه؟

 

هل استطاعت أن تجعل منه مجتمعا مستوعبا للاختلاف وللتنوع وللتعددية؟

 

مجتمعا متقبلا للتجديد والابتكار؟

 

مجتمعا يقر بحق الفرد فى التمرد الخلاق الذى يعد شرطا من شروط التقدم؟

 

لنتتبع تاريخ جامعتنا المصرية المئوى مع حرية الفكر والتعبير ومع الحريات الأكاديمية، لنتتبع المعارك التى دارت فى الجامعة وحول الجامعة طوال مائة عام بين تيارات الاستنارة وقوى الظلام، لنرى هل نجحت الجامعة فى تغيير المجتمع، وهل كانت هناك أصلا فى مصر فى أى وقت جامعة حقيقية لا دين لها إلا العلم؟

 

منذ سنوات الجامعة الأولى شهدت عدة أزمات كشفت عن مدى ضعف مجتمعنا وعجزه عن احتضان جامعة حديثة بفضل سيادة التيارات المحافظة فى المجتمع وامتداد نفوذها إلى الجامعة، ففى السنوات الأولى لإنشاء الجامعة خاضت أربع معارك كشفت عن أن للجامعة دينا آخر غير العلم.

 

فى البداية كانت قضية جورجى زيدان مؤسس دار الهلال وأول من دعا لتأسيس الجامعة المصرية، لقد كان للرجل دراسة مهمة عن التمدن الإسلامى دفعت الجامعة إلى إسناد مهمة تدريس التاريخ الإسلامى إليه، لكن إدارة الجامعة تراجعت عن قرارها بسرعة خشية أن يثير تكليف مسيحى شرقى بتدريس مادة التاريخ الإسلامى «مشاعر المسلمين العاديين غير المتعلمين»، فأثبتت الجامعة بعد أقل من عامين على افتتاحها أن دينها ليس العلم.

 

وبعد عامين آخرين اضطرت الجامعة إلى وقف الدراسة فى الفرع النسائى استجابة لضغوط الرأى العام الرجعى الذى ثار ثورة عارمة لمجرد فكرة التحاق النساء بالدراسة الجامعية، وزادت ثورته عندما أرسل سكرتير الجامعة خطابات إلى النساء الملتحقات بالدراسة بمواعيد المحاضرات وكتب على أظرف الخطابات أسماء الطالبات، فاعتبر المعارضون لالتحاق النساء بالجامعة أن ما حدث فضيحة كبرى لا يمحوها إلا الدم، مرة أخرى فضلت إدارة الجامعة أن تتراجع خطوة إلى الوراء أمام قوى التخلف بدلا من الاستمرار فى المواجهة.

 

لكن المعارك الكبرى حول حرية البحث العلمى بدأت مع رسائل الدكتوراه سواء تلك التى حصل عليها طلاب الجامعة من المبعوثين الأوائل إلى أوروبا، أو تلك التى حصلوا عليها هنا فى مصر، وتحضرنى هنا قضيتان كانت النتيجة فيهما مختلفة، الأولى قضية منصور فهمى فى رسالته عن «وضع المرأة فى الإسلام» والثانية قضية طه حسين فى رسالته عن أبى العلاء المعرى.

 

أما منصور فهمى فقد كان من طلبة البعثة الجامعية الأولى، التى أوفدتها الجامعة المصرية إلى فرنسا للعودة بالدكتوراه، وكان بعد ما يقارب أربع سنوات قد انتهى من إعداد دراسته عن وضع المرأة فى الإسلام، إلا أن الجامعة طالبته بعدم تقديمها للمناقشة لما تصورته فيها من عبارات تمس التقاليد الدينية، إلا أن منصور فهمى رفض تعديل رسالته وأصر على مناقشتها، وحصل على درجة الدكتوراه بالامتياز مع مرتبة الشرف، وبعد عودته أسند إليه كرسى المذاهب الفلسفية بالجامعة، إلا أن الجامعة أقدمت على فصله فى نهاية عام 1913 بعد ستة أشهر فقط من تعيينه، ولم تكتف الجامعة بذلك بل قررت أن يعرض عليها موضوعات البحث التى يختارها الطلاب لرسائلهم، وألا يقدموها للجامعات التى يدرسون بها إلا بعد موافقة الجامعة المصرية عليها، وأن يبعث الطالب بأصل رسالته إلى مجلس إدارة الجامعة للإطلاع عليها وإقرار ما يراه فى شأنها.

 

كانت هذه هى الحادثة الأولى التى اختارت فيها الجامعة الخضوع لمنطق الرأى العام الدينى والأخلاقى السائد، فى مجال البحث العلمى، حتى ولو كان ذلك على حساب رسالتها وعلى حساب مبدأها: استقلال الجامعة عن الدولة والمجتمع فى آن واحد. ذلك الخضوع الذى سيصبح سمة مؤسسية للجامعة فى علاقاتها بمؤسسات الدولة، بما فيها البرلمان، ومؤسسات المجتمع بما فيها الصحافة.

 

وفى العام التالى، عام 1914، ناقشت الجامعة أول رسالة للدكتوراه يتقدم بها أحد طلابها، الطالب طه حسين الذى قدم رسالة عن الشاعر أبى العلاء المعرى، كانت الرسالة نقطة تحول فى مناهج الدراسة الأدبية فى مصر، ورغم أن الجامعة احتفت بالرسالة وصاحبها، وقررت إيفاده إلى فرنسا للدراسة، فإن بعض الأزهريين هاجموا الرسالة والجامعة، وتقدم أحدهم وكان عضوا بالجمعية التشريعية باقتراح بقطع دعم الحكومة عن الجامعة الأهلية لأنها خرّجت ملحدا، فما كان من سعد زغلول الذى كان رئيسا للجنة الاقتراحات بالجمعية إلا أن استدعى النائب وقال له إنه إن لم يسحب طلبه فسوف يقدم طلبا مقابلا بوقف دعم الحكومة للأزهر لأن طه حسين تعلم فى الأزهر قبل أن يلتحق بالجامعة، فسحب النائب طلبه، وانتهت المشكلة، لكن معارك طه حسين من أجل حرية البحث العلمى وحرية الرأى والتعبير لم تنته، ومسار طه حسين ومسار الجامعة المصرية مساران لا يفترقان.

 

وإذا كان سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية فى ذلك الوقت ورئيس لجنة الاقتراحات بها قد نجح فى وأد أول تلك المعارك فى مهدها داخل الجمعية التشريعية، فإن المعركة الثانية جاءت من داخل الجامعة، فقد أثار الشيخ الشاب أزمة داخل الجامعة عندما كتب مقالا فى جريدة السفور ينتقد فيه أسلوب الشيخ محمد المهدى فى تدريس الأدب العربى، مقارنا أسلوبه ومنهجه بالمناهج الأوروبية، فثار الشيخ المهدى وقلب الدنيا على تلميذه طه حسين معتبرا أن نقد التلميذ لأستاذه من الكبائر التى لا تغتفر، وقدم شكوى لإدارة الجامعة طالب فيها بشطب اسم طه حسين من قوائم خريجيها، وانشغل الرأى العام بالقضية، فطالب البعض الشيخ المهدى بعدم التهويل والمبالغة والاهتمام بدلا من ذلك بتحضير دروسه، ورأى البعض أن نقد طه حسين لأستاذه كان نقدا علميا خالصا تعرض لمدى علم أستاذه، وإن هذا من حقه لأن مبدأ التستر على الخطأ العلمى مبدأ شديد الخطر على الحياة الأدبية للأمم، ودافع آخرون عنه داعين إلى دعم روح النقد فى نفوس المصريين لأنها الطريقة الوحيدة التى يمكن أن تؤدى إلى نشر العلم الصحيح بين الناس. ورأت الجامعة أن تتدخل للوصول إلى «حلٍ وَسَط» يرضى جميع الأطراف، فكلفت عالم الآثار على بك بهجت سكرتير الجامعة بتصفية الأمر، ونشر بهجت بيانا فى الصحف قال فيه: «اجتمع لدى الأستاذ الشيخ المهدى والدكتور طه حسين وتكلما فى شأن ما نشر فى جريدة السفور، وتفاهما تفاهما حسنا واعتذر الشيخ طه حسين إلى الأستاذ الشيخ المهدى عما رآه الشيخ المهدى ماسا بكرامته». ويرى الدكتور عبدالمنعم الجميعى فى كتابه عن الجامعة المصرية والمجتمع الصادر سنة 1982 أن طه حسين بهذه الصيغة لم يتراجع فى هذه المعركة عن آرائه العلمية فى الشيخ المهدى أو فى منهجه. لكن المعركة فى مجملها تعكس ضيق المجتمع بالنقد وافتقاد الجامعة لرحابة الأفق التى تسمح بالنقد الذى يعد أساس العلم والمدخل إلى التقدم، كما أسست لمنهج الحلول الوسط التى تنهى المعارك بلا غالب ولا مغلوب، وبينما كان مجتمعنا فى حاجة بالفعل إلى مواقف حاسمة مبكرة تواجه قوى التخلف.

التعليقات