ليست هذه المرة الأولى التى تجرى فيها مناقشة السياسة الخارجية بعد الثورة فى رئاسة الجمهورية. فقد سبق وأن شارك الكثير من الذين حضروا اجتماع منتدى السياسة الخارجية الذى انعقد قبل يومين فى جلسات «محور الشئون الخارجية وعلاقة مصر بالخارج» فى الحوار الوطنى الذى ترأسه الدكتور عبدالعزيز حجازى فى مايو 2011. وقد كان المجلس المصرى للشئون الخارجية هو المسئول عن المحور آنذاك، وشارك فى الجلسات أهم المتخصصين فى السياسة الخارجية لمصر من الدبلوماسيين والأكاديميين والكتاب الصحفيين. وما بين مايو 2011 وفبراير 2013توالت لقاءات متخصصى السياسة الخارجية بالمسئولين السياسيين فى الدولة كما توالت زيارات المسئولين الأجانب لمصر. وانهالت الدعوات على الأكاديميين والنشطاء والمسئولين السياسيين للحديث عن الثورة المصرية فى الخارج. وفى نفس الوقت، شهدنا المئات من العروض الخارجية «لدعم مصر» أثناء المرحلة الانتقالية. ورأينا العلاقاتنا الخارجية ما بعد الثورة تتحول من مرحلة الحماس إلى البدء فى التشكيك فى نوايا الأطراف الخارجية وفى تطورات العملية السياسية وصولا إلى بعض حالات الصدام مع دول كانت بالأمس «شقيقة». وليس المطلوب فى العلاقات الخارجية تقسيم الدول ما بين «أشقاء» و«شركاء» أو دول ننتمى وإياها لنفس «القبيلة» أو تحديد من هم «معنا» ومن هم «علينا» أو من نحبهم ومن نكرههم. ولكننا نحتاج أن نعى أن أساس التصنيف فى لحظات التحول لابد وأن يكون من خلال الإجابة عن سؤال محدد: ماذا نريد من «الخارج»؟
لا خيانة فى أن تبحث كل دولة عن مصلحتها، ويقع على عاتق المسئولين المصريين وليس الأجانب أن ينظروا للسياسة الخارجية على أنها إحدى وسائل تحقيق المصلحة القومية للأمة ككل. ولذلك فإن رد الفعل على عروض الدعم التى أتت من الخارج بالإضافة إلى التحركات الخارجية لمصر كان ينبغى أن تصب جميعها فى الإجابة على سؤال: ماذا نريد من الخارج؟ كيف سيتم توظيف الدعم الخارجى وعلاقات مصر الخارجية فى المرحلة الحالية؟ بأى هدف؟
•••
لقد انعكس غياب الرؤية لما تريده مصر من الخارج بشكل واضح فى كل من الدستور والقرارات السياسية المتعاقبة فيما يخص علاقات مصر الخارجية. ففى الدستور، ورد فى المادة العاشرة من الديباجة «أن الوحدة أمل الأمة العربية؛ نداء تاريخ ودعوة مستقبل وضرورة مصير، يعضدها التكامل والتآخى مع دول حوض النيل والعالم الإسلامى الامتداد الطبيعى لعبقرية موقع مصر ومكانها على خريطة الكون”. وكانت الإجابة عن سؤال: ماذا نريد من الخارج تقتضى وضع المبادئ التى تحدد علاقة مصر بالخارج بشكل عام سواء بدول الجوار أو غيرها أو حتى بالمنظمات الدولية. ثم رأينا بعد ذلك عشوائية فى التحركات الخارجية للقيادة السياسية لا تدل على وجود هدف محدد تبادر القيادة باتخاذ الخطوات اللازمة نحو تحقيقه. فالتحركات كانت كلها ردود أفعال وليست مبادرات.
وبخلاف أولوية تدعيم سلطة النظام الجديد، فإن الأولوية الوحيدة التى بدأت تتضح مؤخرا هى أننا بحاجة إلى الدعم الاقتصادى من الخارج. لكن هل الحصول على القروض والاستثمارات الأجنبية يجيب عن سؤال ماذا نريد من الخارج؟ هل كل ما نريده هو المال؟ وبأى ثمن؟ وإن كانت هذه هى الحال: ففى أى المجالات سوف يتم توظيف الأموال؟ فقط انعاش الاقتصاد؟ وماذا عن إعادة بناء مؤسسات الدولة؟ والقضاء على الفقر؟ وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة؟ وإذا كان انعاش الاقتصاد يمثل محور ما تريده مصر من علاقاتها الخارجية حاليا: لماذا إذن لم نحتو أزمة العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة؟ ولماذا الإصرار على إعادة بناء نظام تسلطى يغلق الباب أمام أية فرصة للاستقرار السياسى مما ينفر المستثمر الأجنبى ويعوق الحصول على قرض صندوق النقد الدولى الذى يعتبره النظام مفتاح النجاة؟ ولماذا لم يتم تطوير بديل خارجى لقرض الصندوق مادام متعثرا؟
أضف إلى كل هذه الأسئلة أن غياب الرؤية الشاملة للهدف المحدد من علاقات مصر الخارجية يؤدى إلى إهدار العديد من المساعدات الخارجية التى دخلت مصر بالفعل وذلك من خلال: (1) دخول هذه المساعدات عبر قنوات متعددة منها وزارة التخطيط والتعاون الدولى ووزارة الخارجية ومنها ما يصل مباشرة إلى الوزارات المتخصصة دون تنسيق كافٍ بين كل هذه الجهات فى إطار خطة متكاملة؛ (2) تركيز الاهتمام على المساعدات المالية مما يؤدى عمليا إلى الاستخفاف بالمساعدات الفنية فى صورة استضافة الخبراء أو إنشاء المشاريع المشتركة. إذ تستقبل الوزارات على اختلاف تخصصاتها بما فيها رئاسة مجلس الوزراء عددا لا بأس به من الخبراء وعروض المساندة الفنية من المنظمات الدولية وبعض الدول فى مجالات محددة مثل إعادة هيكلة وزارة الداخلية، العدالة الانتقالية، التخطيط التشاركى، إصلاح منظومة التعليم أو المواصلات، إعادة تنظيم المجتمع المدنى والحريات وغيرها. وغالبا ما يتم اهدار هذه الخبرات وتلك العروض فى ظل غياب رؤية متكاملة للدور الذى يمكن أن تؤديه من أجل «دعم» مصر خلال المرحلة الانتقالية.
وإحقاقا للحق، فإن نفس هذا التخبط يصيبنا جميعا كمجتمع بما فينا المجتمع المدنى. كانت لى الفرصة فى حضور ندوة نظمتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة حول دور المجتمع المدنى فى فترات التحول الديمقراطى. وكانت النقطة المتكررة فى مداخلات المشاركين من الجهات المانحة هى أنهم يعلمون أنهم يخدمون أهداف السياسة الخارجية لدولهم ويدعمون ما يرونه يتفق مع مبادئهم وقيمهم كجزء من الدول التى ينتمون إليها، ولكن ما يفتقدونه لدى الجانبين المصرى والتونسى أحيانا هو أجندة واضحة بالأولويات التى يتم تحديدها وطنيا فى مجالات التنمية وحماية حقوق الإنسان وغيرها.
•••
وبناء على ما سبق، نأمل من المنتدى المصرى للسياسة الخارجية أن ينظر فى النقاط الآتية:
تمكين وزارة الخارجية ووزارة التخطيط والتعاون الدولى ومنحهما سلطة تحديد وتخطيط ماذا تريد مصر من علاقاتها الخارجية. وأؤكد هنا أن كفاءات وزارتى الخارجية والتعاون الدولى ماتزال مهدرة.
أن تكون وزارة واحدة هى المسئولة عن تلقى جميع عروض التعاون مع الخارج بما فى ذلك زيارة الخبراء الأجانب فى المجالات المختلفة بدلا من توجه هؤلاء مباشرة إلى أجهزة الدولة المختلفة.
معرفة مصير كل عروض المساعدات الفنية المتخصصة التى انهالت على الأجهزة الحكومية المختلفة بعد الثورة والتى لم تتم الاستفادة منها سواء جاءت هذه العروض من جانب المكاتب الإقليمية لبعض المنظمات الدولية أو من جانب دول بعينها.
التوقف عن تخوين مؤسسات المجتمع المدنى ومؤسسات الدولة لبعضها البعض فيما يخص العلاقة مع الخارج. فمن دون التوصل لأجندة واضحة لدى الجانبين لما يريده من الخارج ــ وليس كيف يمكن أن يستفيد مما يطرحه الخارج عليه ــ ليس من حق أى من الجانبين تخوين الآخر خصوصا أنه فى بعض الأحيان يفضل الطرفان الحوار والتعاون مع الخارج بدلا من الحوار والتعاون مع بعضهما البعض.
إن الخيارات المتاحة فى التعامل مع الخارج لا تتلخص فى النقل عنه (مع تمصيره) أو رفضه تحت ذريعة الخصوصية/التفرد. ففى الوقت الذى يراجعون فى الغرب منابع تطور الفكر الاقتصادى والسياسى كل المسلمات حول الديمقراطية والرأسمالية والتنمية المستدامة ودور المجتمع المدنى وعلاقة الدين بالسياسة بشكل ناقد، لا يمكن أن نستمر فى طرح هذه القوالب كأهداف سامية لابد من الاستماتة فى الوصول إليها. بل ينبغى أن نعلم ما نريده نحن.
مدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية