المقاطعة فى العمل السياسى عموما هى أسوأ الاختيارات لأنها تعنى أن من يقاطع يترك الساحة لغيره وأنه قد حرم نفسه من المشاركة ومن التأثير بينما الفرصة كانت متاحة له. وحينما يكون موضوع المقاطعة هو لجنة كتابة الدستور فإنها تكون قرارا صعبا وخلافيا وذا عواقب وخيمة على المجتمع كله. مع ذلك، وبقدر كراهيتى لفكرة مقاطعة أى ساحة عمل سياسى، إلا أن المقاطعة أحيانا تصبح الخيار الوحيد المقبول والبديل الوحيد الذى يعبر عن رفض المجتمع للاستمرار فى مسار غير سليم. وفى تقديرى أن أسلوب تشكيل لجنة كتابة الدستور قد دفعنا إلى هذه النتيجة الحتمية والمؤسفة، ليس بسبب توزيع المقاعد بين القوى والأحزاب السياسية أو بسبب نسبة تقسيمها بين الدينى والمدنى كما يحلو لكثير من المعلقين أن يتصوروا، بل لأن آلية تشكيلها منذ البداية كان فيها خلل شديد، ثم جاءت النتيجة لتعبر عن هذا الخلل بما يجعل رفض اللجنة بأكملها ومقاطعة الاشتراك فيها الخيار الوحيد المتبقى.
حينما صدر الإعلان الدستورى فى العام الماضى نص على أن ينتخب نواب مجلسى الشعب والشورى أعضاء لجنة الدستور المائة دون تحديد لمعايير أو نسب أو آليات معينة، تاركا لهم الحرية فى ذلك. ولكن البديهى ان هذا الاختيار يجب أن يحقق الغرض المطلوب، وهو أن يكتب دستور مصر ممثلو المجتمع بأفضل ما فيه من خبرات وكفاءات وبتوازن وعدالة، وأن يكون ذلك أيضا بناء على معايير موضوعية واضحة بحيث يفهم الناس ويقدرون كيفية الاختيار.
ولكن ما حدث يوم السبت قبل الماضى أن مجلسى الشعب والشورى بدلا من أن يستغلا الفرصة لوضع معايير عادلة ومناسبة، إذا بالأغلبية البرلمانية تقرر أن تخصص لأعضاء البرلمان وحدهم نصف مقاعد لجنة الدستور وتترك لكل المرشحين من الأفراد والنقابات والشخصيات العامة وأساتذة القانون وعلماء المجتمع ورجال القضاء وممثلى الهيئات الدينية والكتاب والفنانين والفلاحين والعمال والشباب والطلاب وغيرهم النصف الآخر، مع أن الإعلان الدستورى أعطى البرلمان سلطة انتخاب أعضاء لجنة الدستور ولكنه لم ينص على أن يستأثر بنصف مقاعدها.
ثم زاد الأمر سوءا أنه لم يتم الإفصاح عن أسلوب ومعايير توزيع هذه المقاعد الخمسين المتبقية على كل ممثلى المجتمع من الأفراد والهيئات، فهل تكون بنسبة محددة للهيئات والباقى للأفراد؟ وهل المعيار هو الانتماء الحزبى أم الكفاءة؟ وهل الخبرة القانونية والدستورية لها وزن خاص؟ وهل للمرأة تمثيل مضمون؟ كل هذه المعايير لم يتم مناقشتها وبالتالى لم تكن معروفة إلا لقيادات حزبى الأغلبية فى المجلس، بينما المجتمع من حقه أن يشارك فى النقاش، والأحزاب قدمت بالفعل مقترحات تم تجاهلها. دعونى أؤكد أن للأغلبية البرلمانية حق أن تقرر وأن تحسم الأمور لصالحها، وهذه طبيعة الديمقراطية، ولكن لباقى المجتمع والقوى السياسية حقوق أيضا، وعلى رأسها المشاركة فى النقاش، وفهم المعايير التى يتم على أساسها الاختيار، وستأتى النتيجة فى الحالتين لصالح الأغلبية، ولكن فارق أن تكون بعد استطلاع رأى المجتمع وبين أن تكون نتيجة حوار فى غرفة مغلقة لا يعلم أحد ما يدور فيها. وحينما يتعلق الموضوع بالدستور فإن الأمر يصبح خطيرا وغير مقبول.
ولذلك فقد جاءت النتيجة معبرة عن هذه المشاكل المتراكمة كلها، اذ أسفرت عن لجنة يغيب عنها خير ما فى المجتمع المصرى من كفاءات وخبرات. كيف تخلو اللجنة من عمالقة القانون والدستور فى مصر ومنهم ــ مع حفظ الألقاب ــ إبراهيم درويش، وكمال أبوالمجد، ويحيى الجمل، وفتحى والى، وحسام عيسى، ونور فرحات، ومحمود فهمى، وتهانى الجبالى، ورؤساء ومستشارو محاكم النقض ومجلس الدولة والدستورية السابقون، وبين هؤلاء من استقدمهم العالم العربى كله لكتابة دساتيره وقوانينه وكرمهم وافتخر بهم، بينما يتجاهلهم وطنهم فى لحظة كتابة دستوره؟ وكيف يجد د. حازم الببلاوى والشيخ سيد عسكر أنفسهما على مقاعد الاحتياطى بينما الملعب الأصلى مليىء بلاعبين لا علاقة لهم بموضوع الدستور، مع تقديرى الكامل لهم ولتخصصاتهم فى مختلف المجالات؟ وكيف تتضمن اللجنة ستة من النساء فقط بينما البلد لا تنقصه الخبرة النسوية فى كل المجالات، ولا نجد من بينهن واحدة تمثل أى جمعية أو اتحاد أو نقابة؟ وكيف يقتصر تمثيل النقابات المهنية والعمالية على هذا العدد الضئيل وهم عماد المجتمع المدنى؟ وكيف يكون المسيحيون ممثلين بستة أعضاء فقط؟ وما هى المعايير التى تم الاستناد إليها فى اختيار الشخصيات العامة؟ وأين تمثيل اتحاد الكتاب؟ ومن يعبر عن وجهة نظر المستثمرين من القطاع الخاص وأعضاء غرف التجارة واتحاد الصناعات والقطاع المصرفى والمالى وهؤلاء بالملايين ويمثلون العمود الفقرى للاقتصاد المصرى؟ حتى المصريين الحائزين على جائزة نوبل تم نشر خبر استبعادهما بمنتهى البساطة كما لو كانا مرشحين لمجلس إدارة ناد رياضى. باختصار ومع تقديرى الكامل واحترامى لكل أعضاء اللجنة، إلا أن الغائبين عنها جعلوا الشارع يتساءل ــ وعن حق ــ أين مصر من هذا التشكيل؟
لقد كانت هذه فرصة تاريخية لكى تأتى لجنة كتابة الدستور معبرة عما فى مصر من خبرات وكفاءات يسعى العالم العربى لاجتذابها والتباهى بها، ولكى تكون ممثلة لكل الطوائف والنقابات، ولكى يكون المجتمع المدنى حاضرا بها، ويكون للنساء دور فيها، ولكن للأسف أننا أهدرنا هذه الفرصة لتحقيق حسابات حزبية ضيقة. لهذا فالمقاطعة اليوم ليست انسحابا من المعركة، ولا تركا لقضية كتابة الدستور، بل احتجاجا على هذا الوضع وعلى هذا الأسلوب وعلى هذه النتيجة، أما الدستور فلن نتركه ولو خرجنا من اللجنة، بل سيكتبه كل من تم تجاهلهم واستبعادهم وسيكتبونه لمصر ولن يقدر أحد على اسكاتهم.