تدرك الحكومة المصرية أنها استباحت كثيرا حريات الناس وعصفت على نحو متكرر بسيادة القانون، ودوما ما وجدت من ينكر لها التورط فى المظالم أو يبرر لها ارتكاب الانتهاكات أو يشجعها على تجاهل قضايا حقوق الإنسان دون عناء.
ألم تتراكم خلال السنوات الماضية جرائم القتل خارج القانون، وكأن مهمة الأجهزة الأمنية هى التصفية وليس جلب من تشتبه فى أفعالهم وممارساتهم الإجرامية إلى العدالة (تصفية «عصابة القاهرة الجديدة» نموذجا)؟ ألم تتكرر جرائم الاختفاء القسرى والتعذيب وسلب الحرية دون إجراءات تقاضٍ عادلة والمعاملة غير الإنسانية للقابعين وراء الأسوار؟ ألم يضرب سجناء العقرب عن الطعام بعد أن فاض بهم وبذويهم الكيل بفعل الانتهاك الممنهج لحقوقهم؟ ألم تتواتر الشهادات الموثقة بشأن حالات الموت داخل السجون وأماكن الاحتجاز؟
على الرغم من كل ذلك، وجدت الحكومة المصرية دوما من ينكر، ضاربا عرض الحائط بالشهادات الموثقة للمظالم والانتهاكات، ومن يبرر أن باستدعاء الحرب على الإرهاب أو بتشويه المعارضين(الطابور الخامس فى الخطاب الإعلامى المؤيد للحكومة) الذين نزعت عنهم كل قيمة أخلاقية وإنسانية، ومن يتجاهل من الكتاب والإعلاميين والبرلمانيين المنتقين أمنيا والمستتبعين من الحقوقيين دون اعتبار لمقتضيات العقل والضمير.
خلال السنوات الماضية، شهدت مصر تدهورا كارثيا فى حقوق الإنسان، ولم تحرك الحكومة ساكنا لإيقاف التدهور ولتغيير الوجهة. لم تفعل ذلك، باختصار، لأن المظالم والانتهاكات باتت أداة من أدوات حكم البلاد شأنها شأن تزييف الوعى وترويج نظريات المؤامرة وإطلاق وعود الإنجازات الكبرى القادمة.
ولأن الحكومة تدرك أيضا أن زعم الحكومات الغربية الاهتمام الفعلى بقضايا الحقوق والحريات فى مصر يجافيه الصواب، فإنها لا تأخذ أبدا بيانات القلق بشأن حقوق الإنسان وبيانات الإدانة للانتهاكات الصادرة عن وزارات الخارجية الغربية على محمل الجد. قد تعرب الخارجية الأمريكية عن القلق بسبب تعقب المنظمات الحقوقية والمجتمع المدنى فى مصر، غير أن مصالحها الأمنية والعسكرية والتجارية تظل أكثر محورية وتفرض عليها التعاون مع الحكومة المصرية. قد يمرر البرلمان الأوروبى بيان إدانة لأوضاع حقوق الإنسان فى مصر ويدعو حكومات الدول الأعضاء إلى وقف المساعدات عقب ،غير أن الدول الأعضاء تلزمها مصالحها بمواصلة التعاون مع الحكومة المصرية. فإيطاليا لديها مصالح بترولية وتجارية كبرى تحفزها على شىء من الصمت بشأن قتل ريجينى .وفرنسا لديها صادراتها المهمة للحكومة المصرية، ولألمانيا مصالحها الاقتصادية والتجارية التى تدفع بوزاراتها إلى تسيير الوفود وبشركاتها الخاصة إلى توقيع الاتفاقات.
ولأن الحكومة المصرية تدرك ذلك، فإنها تراوح فى تعاملها مع البيانات الغربية بين الاستخفاف بها وتسفيهها، وبين رفع يافطات رفض التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية، وبين إطلاق اتهامات التآمر على مصر باتجاه الجميع. بل أن الحكومة لا تتردد فى أن توظف إزاء الغرب استراتيجيات الإنكار والتبرير وتجاهل مقتضيات العقل والضمير حين تطول مظالمها وانتهاكاتها مواطنين غربيين أو مصالح غربية.
الشىء الوحيد الذى لا تدركه الحكومة المصرية فى هذا السياق هو أن استراتيجيات الإنكار والتبرير والتجاهل لم تعد تقنع الكثيرين بيننا، وأن تواتر بيانات القلق والإدانة (من منظمة الأمم المتحدة أيضا) سيجعل مصر تدريجيا «دولة مارقة» بمعايير حقوق الإنسان ويصنفها فى عداد الدول التى لا يريد كثيرون متابعة أخبارها وسيمعن فى تصنيف حكومتها كشر لا بديل له فى الوقت الراهن، تماما كدولة كوريا الشمالية وحكومتها. مرحبا بالأشقاء الكوريين.