دعيت من يومين لحضور الاحتفال بمرور مائة وأربعين عاما على إنشاء المدرسة التى تخرجت منها وهى مدرسة الآباء اليسوعيين (المعروفة باسم «الجيزويت») وإلقاء كلمة فى الاحتفال. ولكن للأسف شاءت ظروف عائلية أن أضطر للسفر إلى قريتى «الدوير» بأسيوط فى ذات اليوم، فتكرم الأب/ فاضل سيداروس بإلقائها فى احتفال بهيج سمعت أنه جمع أجيالا عديدة من خريجى المدرسة.
وقد حاولت فى كلمتى أن اعبر عن تقديرى وامتنانى للمدرسة التى علمت أجيالا متعاقبة وللآباء اليسوعيين الذين أفنوا حياتهم فى خدمة التعليم والمجتمع المصرى والإنسانية.
وفِى تقديرى أن أهمية التجربة التعليمية للآباء اليسوعيين فى مصر أنها لم تعتمد على توفير مبانٍ فارهة ولا على البذخ فى إعداد الفصول والقاعات والملاعب كما صار الحال مع العديد من المدارس الدولية الحديثة، بل وضعت كل جهدها وتركيزها فى جوهر العملية التعليمية، أى فى تمكين الطالب من اكتساب الخبرات والمهارات المطلوبة من جهة، وتسليحه من جهة أخرى بمجموعة من القيم والمبادئ والأسس الفكرية والأخلاقية التى تصنع منه مواطنا صالحا وعضوا مفيدا لمجتمعه. وأظن أن منهج التعليم عند الآباء اليسوعيين فى مصر قد استند إلى ثلاثة قيم أساسية:
الأولى هى العدالة الاجتماعية، ليس فقط بمعنى العطف على الفقراء والمحتاجين، بل بإدراك ان للمواطنين جميعا حقوقا فى التعليم والصحة والسكن والعمل، وأن الحصول عليها يجب أن يكون فى إطار يحفظ لهم كرامتهم. وهذه رسالة الآباء اليسوعيين فى العالم كله وليس فى مصر وحدها.
والقيمة الثانية هى المساواة ورفض التمييز، وخاصة التمييز على أساس دينى أو طائفى. ولا أبالغ إن قلت أن مدرسة الجيزويت كانت ولا تزال نموذجا يحتذى به فى التعايش بين أبناء الديانات والطوائف المختلفة، وفى رفض كل أشكال التفرقة والتمييز.
وأما القيمة الثالثة فهى الوطنية والانتماء لمصر، وهى مشاعر نجحت المدرسة فى أن تغرسها فى وجدان الطلاب عن طريق بناء الاعتزاز لديهم بالحضارة المصرية والفن والأدب والثقافة وعن طريق تشجيعهم على التعرف على البلد وأهله والالتحام بهم فى أحياء القاهرة القديمة كما فى قرى الصعيد.
ومع ذلك فإن تجربة «الجيزويت» لم تكن دائما سهلة ومريحة، بل واجهت المدرسة أوقاتا وظرفا عصيبة خلال القرن ونصف الماضيين، أحيانا بسبب توجس الدولة من أن يكون نشاطها تبشيريا حتى اتضح لها أنه نشاط تعليمى وتنموى محض، وأحيانا بسبب وجود مدرسين أجانب وأوروبيين إبان العدوان الثلاثى على مصر مثلا، وأحيانا للرغبة فى السيطرة والتضييق وفرض الوسائل التعليمية التقليدية المعمول بها فى الوزارة ورفض ما هو جديد، وأحيانا فى مقاومة محاولات المدرسة للتوسع والتطور بما يواكب احتياجات العصر. ولكن صمدت المدرسة لأن هدفها ظل خدمة البلد وتعليم الأولاد فقط دون نظر إلى ربح أو مكافأة أو حتى تقدير من الدولة، ولأن وراءها الآباء اليسوعيين الذين وهبوا أنفسهم للتعليم ولمكافحة الفقر والجهل والظلم الاجتماعى.
واليوم، ومصر تواجه تحديات جسيمة فى مجال التعليم الذى يمثل الوسيلة الوحيدة للتقدم والمنافسة مع باقى بلدان العالم، فإن النظرة السائدة لا تزال منحازة نحو بناء المزيد من المدارس، والاستعانة بتقنيات حديثة على نحو ما يجرى مع تجربة «التابلت» الأخيرة بغض النظر عن التعثر الذى تعرضت له فى يومها الأول، وكلها حلول ربما ضرورية ولكن ليست كافية، لأن ما يضيع فى غمرة الانشغال بالمبانى والأدوات والامكانات هو جوهر العملية التعليمية.
وجوهر التعليم هو المدرس والمنهج والقيم الاخلاقية والاجتماعية التى يجرى غرسها فى وجدان الطلاب منذ صغرهم، على نحو ما فعلت مدرسة الآباء اليسوعيين منذ عشرات السنوات ومعها مدارس أخرى عظيمة ورائدة تحتاج اليوم للدعم والمساندة كى تستعيد مكانتها وتستمر فى تقديم رسالتها التعليمية والتنموية.