صاح الرجلُ مُتراجِعًا في انزعاجٍ وغيظ: فتَّح يا أعمى. لم يكُن في المَشهد ما يَستوجِب الغضَبَ الشديد؛ فقط شريكٌ في التزاحمِ على ثلةِ بضائع رخيصَة الثمنِ تكاد تنفد؛ قد أخذته الرغبةُ العارمةُ في الحصولِ على نَصيبٍ، فاندفع يُحاول التقدُّم بين عشراتِ الأجسادِ المُتشابِكة، ودَاسَ في طريقه أقدامًا عدَّة عن غير قَصد؛ لكنها الصدور التي ضاقت وأوغَرها العَوَزُ والفَقر.
• • •
يأتي الفعلُ دَاسَ في قواميس اللغة العربية بمعنى وطئ بشدَّة؛ الفاعلُ دائسٌ والمَفعولُ به مَدوسٌ والمصدر دَوْس. إذا قيل دَاسَ البستانيُّ الأرضَ فقد سوَّاها وشذَّب النافرَ من نَبتِها، وإذا داسَت العابرَ سيارةٌ؛ فالشاهد أنها قد دَهَسته وربما أزهقَت روحَه، والاستخدامُ في هذا السياق شائع وله صور مُتنوعة؛ حتى إن المُتنافِسَ في شوارع صارت مثل حلباتِ السباق؛ يُشار إليه بأنه "دايس" بعد إحلالِ الياء مكان الهَمزةِ والنبرةِ للتخفيف، والمعنى أنه يُسرع بسيارتِه ليصلَ قبل غيره. الدوَّاسُ صيغةُ مُبالغة مؤنثها دوَّاسة؛ نعرف دوَّاسةَ العربةِ التي تتحكَّم في ضخّ الوقود وتلك التي تؤدي إلى تشغيلِ المكابح، كما نعرف الدوَّاسات التي توضَع أمام الأبواب ليطأها الناسُ عمدًا ويحكُّون فيها ما علقَ بنعالهم من أتربةٍ ووسخ.
• • •
لا يعدم الفعلُ داسَ مَدلولات مَجازية طريفة؛ فثمَّة أعرافٌ وتقاليد ينحو الناسُ لدَوسِها دون أن ينتابهم أيُّ شعورٍ بالذنب؛ فبعضها قد اهترأ بمُرورِ الوقتِ وأمسى باعثًا على الضَّحك، والبعضُ الآخر لم يعد يصلح لزمَنٍ تبدل وصار فارقًا، وبعضٌ ثالثٌ أثبت فشلَه في تحقيقِ نمطِ حياةٍ أفضل على امتداد العصور.
• • •
مِن المفاهيم العلميَّة ما تحوَّل مع التقدُّم والبحث إلى نقيض، ومنها أيضًا ما بات في حكمِ التاريخ؛ يدرسه العلماءُ بهدف المَعرفة والاطلاع، لا للتطبيق والاستعمال. هناك كذلك ما تكشَّفت الفرضياتُ الحديثةُ والنظرياتُ عن صوابِه وأكدته، فإذا دَاسَ الواحد المَفاهيم السائدة؛ كان القَّصد أنه تحوَّل عنها، وربما تبنَّى أخرى تفضُلها وتتمتع بثباتٍ أكبر ومِصداقية أعلى.
• • •
بعضُ الناس شديد العَزم قويُّ الشَّكيمة، يدوس الصَّعبَ ويمضي نحو هدفه بلا تردُّد. يُحرِز انتصارًا تلو آخر ويقفز فوق الحواجزَ التي تعترضُ الطريقَ، وربما يُحطمُها إن استوجَبَ الأمر أو استعصى القفز. تفتقر المُجتمعاتُ الحديثة إلى هؤلاءِ إذ يمثلون ندرةً من البشر؛ أما الغالبيةُ العظمى، فلا تدوسُ سوى بعضها البعض، وربما تدوسُ ذواتِها وتهرسها هرسًا في خضمّ صراعاتٍ ساذجة.
• • •
دوسةُ اسمُ المرةِ الواحدةِ من دَاسَ، وهو تدليلٌ لكلّ امرأةِ تُدعى فردَوس، وتعبير يَعرفه لاعبو الطاولة؛ يُشير إلى ظهورِ الرقمِ ثلاثة على حَجَريّ الزَّهر.
• • •
المَداسُ هو ما تُوضع فيه القدمُ ليحميها، لكن الحمايةَ ليست بالهدفِ الوحيد؛ فكعبٌ عالٍ يُطيل صاحبَه أو صاحبته ويُنصفهما في مواجهةِ طوالِ القامة، وآخر مِن مطاطٍ فاخرٍ ذو تصميمٍ خاص؛ يُعطي مُرتديه أفضليةً أثناء لعبِ الرياضة. عرضَ فيلم AIR منذ أسابيعٍ قليلة، وفيه قصةٌ حقيقيةٌ حول لجوءِ شركة نايكي الشهيرة في عالم المنتجات الرياضية، للناشئ مايكل جوردون الذي تحول لاحقًا لأسطورة كرة السلة؛ كي يُصبحَ واجهةَ تسويقِ أحذيتها وليحظى بخط إنتاج خاص. المَداسُ هنا قد حقَّق مَبيعاتٍ هائلة، ونجح جوردون بفضلِ والدته في الحصولِ على نسبةٍ ثابتةٍ من هامشِ ربح كلّ حذاءٍ يتم شراؤه.
• • •
في زمنِنا هذا، لا تحتلُّ مشاعر الحبّ والوِدّ تلك المكانةَ السامية التي تبوأتها في أزمنةٍ سابقة. ثمَّة ما استجدَّ في حيواتِنا فأقفرها وجعلها باهتة. الحساباتُ المُعقدةُ تُرجح كفةً على أخرى، والهُمومُ المُتكاثرةُ تدفع الكُلَّ إلى لهاثٍ مُتواصِل يتشتَّت معه العقلُ ويأفلُ الوجدان؛ حتى ليدوسَ الواحد قلبَه وأحاسيسَه مُضطرًا صاغرًا، مُتصورًا أنه ينتصر للعقلِ والحكمة، فيما يتخلى عن أهم ما يملِك كإنسان.
• • •
قد يُرهقُ المرءُ نفسَه أو يضغطُ عليها بواجباتٍ ثقيلةٍ تؤرقها. يدوسها دَوسًا ولا يُبالي بأناتها، ينظر إلى المَكسبِ القريبِ ويَغفلُ عن خسارةٍ بعيدة؛ والحقُّ أن الآجلَ عصيٌّ على الاستدراك ما وقع، والداني- وإن بدا مغريًا- زائل.
• • •
كانت جَدتي تقولُ كلما أعلنت رغبتي في الانفرادِ الكاملِ والانعزالِ عن صَخْبِ المَعارف والأقرباء: الجنَّة من غير ناس ما تنداس؛ وكنت بدوري أجد في سارتر المُنقذ الذي يمُدني دومًا بالردَّ الحاسم: الآخرون هم الجحيم. أدركت بعد حين أن ما بين القَولين اللذين يُمثلان طرفيّ النقيض؛ طيفًا واسعًا مِن المَواقِف، فلا الشرنقةُ الصامتةُ حاضنةٌ للأفكار، ولا الضَجَّة المُقلقة جديرةٌ بها.
• • •
ربما يَدوس صاحبُ النفوذِ القوانين ويخرقها؛ مُعتمدًا على مكانتِه ومَوقعه. قد يغيرها أيضًا بما يرضيه ويكفل له ارتكاب ما شاء دون أن يعدَّه الناسُ متجاوزًا؛ والحقُّ أن المَسلكين كليهما مِن مُوبقاتِ أيّ نظام؛ فاحترام القواعد والقوانين نابع من توافق الجموع عليها، لا من قابليتها للتشكُّل وِفقَ أهواءِ أفراد.
• • •
إذا عاملَ الواحد آخرًا بما يُهين؛ قيل إنه داسَه، أيّ أذلَّه وحقَّره وأذاقَه الهوان، وإن داسَ الواحد كرامتَه؛ فالقصد أنه أهدرَها وفرَّط فيها. الحالان متكاملتان منسجمتان، فالمرءُ ما أذلَّ نفسَه؛ سَمَحَ للآخرين بإذلالِه، وما طأطأ الرأس وأحناه؛ انهمرَت على قفاه الصفعات.