إنصاف نجيب أم ثأر من عبدالناصر؟ - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 5:04 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إنصاف نجيب أم ثأر من عبدالناصر؟

نشر فى : الأربعاء 26 يوليه 2017 - 9:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 يوليه 2017 - 9:00 م
إنصاف أدوار الرجال على مسارح الأحداث الكبرى قضية سياسية وأخلاقية تكتسب ضروراتها من سلامة الذاكرة العامة.
هذه مسألة تختلف جذريا عن طلب الثأر وتصفية الحسابات لأهداف لا صلة لها بأى إنصاف.

لم تكن الحملة الجديدة على ثورة يوليو فى ذكراها الخامسة والستين باسم إنصاف اللواء «محمد نجيب» أول رئيس للجمهورية فى مصر خروجا عما اعتادته الحملات، التى اتصلت دون انقطاع لما يقارب نصف القرن من تشهير بخياراتها الرئيسية ومعاركها الكبرى.

لا إنصاف «نجيب» قضيتها ولا طلب الحقيقة موضوعها.

لم تكن الحملات المتصلة فرقعات إعلامية وسياسية فى الهواء السياسى بقدر ما كانت تسويغا لما طلبته إدارات أمريكية متعاقبة من أن تكون يوليو آخر الثورات و«عبدالناصر» آخر الزعماء وأكتوبر آخر الحروب ــ والوثائق حاضرة لمن يريد أن يقرأ ومن بينها ما كتبه وزير الخارجية الأمريكى الأسبق «هنرى كيسنجر».

القضية ليست «جمال عبدالناصر»، فقد فشلت كل الحملات الضارية على إرثه وتجربته ومشروعه والأحلام الكبرى التى أطلقها ــ وهذه كلها تستحق المراجعة الجدية لنعرف ما الذى جرى بالضبط، كيف انتصرنا حين انتصرنا ولماذا اخفقنا حين اخفقنا.

القضية الحقيقية ألا تكفر مصر بتاريخها وثوراتها وأن تكتسب بالوعى قدرتها على التصحيح والتصويب فى الحركة إلى المستقبل، تعتز بمعاركها دون إغفال لمناطق الضعف التى أفضت إلى الانقلاب على ما أنجزته.

بأى نظر موضوعى فإن اللواء «نجيب» هو ضابط وطنى مصرى بلا أدنى شك، حارب فى فلسطين وجرح ثلاث مرات ونال أوسمة على شجاعته وتمتع بخصال شخصية أكسبته ثقة الضباط الأحرار بقيادة «عبدالناصر».

قرب نهاية عام (١٩٥١) كان مرشحهم لرئاسة نادى الضباط، وبدا ذلك اختبارا لقوتهم وقدرتهم على التأثير فى التوجهات العامة داخل الجيش المصرى.

بنفس النظر الموضوعى فإنه تحمل مسئولية الموقف الصعب ليلة (٢٣) يوليو، لم يكن مؤسس تنظيم «الضباط الأحرار» ولا قائده، ولم يحضر اجتماعا واحدا لهيئته التأسيسية قبل الثورة، كما لم يكن صاحب خطة التحرك التى حددت ساعة الصفر، لكن اسمه على رأس الحركة ساعدها على اكتساب ثقة المجتمع بما يتمتع به من سمعة طيبة.

كانت معضلة «الضباط الأحرار»، الذين أطاحوا النظام الملكى المتهاوى، أن قائدهم «عبدالناصر» فى الرابعة والثلاثين من عمره ورتبته «بكباشى»، وهو أمر يصعب تقبله من مجتمع تقليدى يضع للسن اعتباره فى تولى المسئولية العامة.

هذا كله صحيح وثابت ويستحق «نجيب» بمتقضى حقائقه إنصاف دوره.

غير أن أى إنصاف له إطار وسياق وإلا فإنه اعتداء على الحقائق ومبالغة فيما لا يصح أن يبالغ فيه.

إطلاق اسمه على قاعدة عسكرية فى غرب مصر، وصفت بأنها الأكبر فى الشرق الأوسط، نوع من التكريم يستحقه للدور الذى لعبه فى إنجاح الثورة.
لا يصح أن يمارى أحد فى ذلك دون إغفال مجموعة من الحقائق.
الأولى ــ أنه لم يكن الاسم الوحيد الذى فكر فيه ثوار يوليو ليكون واجهتها، فقد جرى التفكير فى قائد عسكرى آخر من قيادات حرب فلسطين يتمتع بقوة الشخصية، هو اللواء «فؤاد صادق»، غير أنه أجفل ــ حسب بعض الروايات ـ عن قبول المهمة التى قد تكون نتائجها وخيمة.

بحسب رواية غير مؤكدة فإن الاقتراح نفسه عرض على الفريق «عزيز المصرى»، لكنه اعتذر بسبب تقاعده منذ فترة طويلة.
كان «نجيب» هو الخيار الأفضل بالنسبة لـ«عبدالناصر» والأكثر استعدادا فى نفس الوقت لتصدر الحركة.

‫«‬عبدالناصر» اختار و«نجيب» وافق ــ وتحددت مصائر اللعبة بعد ذلك على هذا الأساس.

القائد الحقيقى ليس هو القائد الواجهة والرجل القوى ليس هو الرئيس المعلن.

هكذا نشأ الصراع على السلطة.

والثانية ــ لم يكن «عبدالناصر» متآمرا ولا كان «نجيب» ملاكا.

وقد ورد فى التحقيقات، التى أجريت مع المتورطين من جماعة الإخوان المسلمين فى محاولة اغتيال «عبدالناصر» عام (١٩٥٤)، أن الرئيس «نجيب» كان على علم مسبق بما خطط له، لكنه طلب عدم ذكر اسمه إذا لم تنجح المحاولة خشية ردات الفعل.
كان ذلك السبب المباشر فى إطاحته، لم تجر أية محاكمة له تقديرا لدوره فى تصدر مشاهد الثورة الأولى، ولا شُهر به على صفحات الجرائد.

طويت صفحته وغاب ذكره وأودع تحت الإقامة الجبرية فى قصر بالمرج تملكه السيدة «زينب الوكيل» حرم رئيس حزب الوفد «مصطفى النحاس».

غير أنه بنظرة أخرى فقد كان يستحق بعد مضى عدد من السنين نوعا من العفو ودرجة من التسامح خاصة بعد اكتساب «عبدالناصر» شعبية هائلة لا مثيل لها فى التاريخ الحديث وتثبيت أركان حكمه إثر النتائج السياسية لتأميم قناة السويس (١٩٥٦) وخروج مصر دولة كبرى فى إقليمها وقارتها وعالمها بعد فشل العدوان الثلاثى عليها.

هنا يتبدى سؤال افتراضى: ما الذى كان يمكن أن يفعله اللواء «نجيب» بمجلس قيادة الثورة إذا ما قدر له حسم السلطة بدعم من الإخوان المسلمين؟

التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية وصراعات السلطة لا تعرف الرحمة.
الإجابة الوحيدة: التنكيل المفرط.

ثم يتبدى سؤال افتراضى آخر: هل كان يمكن أن تكون هناك ديمقراطية مع الأفكار الشائعة للجماعة التى تناهض فكرة التعددية إذا ما قدر لـ«نجيب» أن ينتصر فى صراع السلطة؟

أية إجابة سهلة معبر إلى مجهول معتم.

والثالثة ــ أن دور «نجيب» كواجهة ليوليو يتوقف عند تحمل مسئولية الحركة فى لحظة «الانقلاب».

بأى تعريف كلاسيكى يوليو الانقلاب الوحيد فى التاريخ المصرى الحديث.

وبأى تعريف كلاسيكى يوليو الثورة الوحيدة حيث حكمت وغيرت التركيبة الاجتماعية والبيئة الإقليمية على نحو جذرى، وهو ما لا يتوافر لأية انتفاضة أخرى.

بهذا المعنى فإن يوليو هى «عبدالناصر»، ولا أحد آخر يضاهيه أو ينازعه.

الثأر من «عبدالناصر» ــ باسم «نجيب» ــ هو ثأر من يوليو ومعاركها وقضاياها.

هذه هى الحقيقة بلا لف أو دوران.

وقد ضمت الحملة على يوليو هذه المرة مجموعة متناقضات تشمل جماعة الإخوان وبقايا جرحى الثورة، الذين أضرتهم توجهاتها الاجتماعية والاستراتيجية، والذين يكرهون الحاضر ويتصورونه امتدادا ليوليو التى أسست لما يسمونه «حكم العسكر» دون إدراك أن ثورات مصر جميعها شارك الجيش فيها بأدوار أساسية باستثناء ثورة (١٩١٩) حيث كانت مصر تحت الاحتلال البريطانى.

إنكار الدور الوطنى للجيش المصرى منذ الثورة العرابية جهل بالتاريخ واستخفاف به، وهذه قضية تختلف عن ضرورة بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة يلتزم فيها الجيش بأدواره الدستورية فى حفظ الأمن القومى ولا يتدخل فى السياسة.
الأكثر لفتا للانتباه أن جهات فى الدولة شاركت بلعبة خلط الأوراق حيث روجت لـ«نجيب» على أنه «الأب الروحى للثورة»، وهذا افتراء كامل على الحقيقة والتاريخ.

والرابعة ــ أن مذكرات «نجيب» المنشورة شابتها مرارة واضحة، وهذه مسألة إنسانية مفهومة، غير أنها أمعنت فى تسييس التاريخ لمقتضى تصفية الحسابات.

عندما صدرت ببيروت أول طبعة من مذكراته انطوت على انتقادات عنيفة للأخوين «مصطفى» و«على أمين»، غير أن الطبعة المصرية حذفت كل هذه الانتقادات، فقد تغيرت الظروف وصعد دور التوءم الصحفى الشهير بعد إطاحة رئيس تحرير «الأهرام» الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، وهذا ليس تاريخا وتلك ليست مذكرات يعتد بها.

ما تحتاجه مصر أن تقرأ تاريخها بموضوعية وأن تنصف نفسها أولا بكل ما خاضته من معارك وبذلته من تضحيات حتى تستحق أن يرتفع من جديد ذكرها.