فى مقالاتى الأخيرة بهذه الجريدة، استعرضت أمثلة كثيرة من داخل مصر وخارجها، ومن حقب تاريخية مختلفة، لما يمكن أن يكون للمفكرين من دور فى قيام الثورات، وفى مجرى الأحداث بعد الثورة، فلم أجد ما يدل على أهمية كبيرة لهذا الدور، بل وفى بعض الأحيان لم أجد ما يدل على أن لهم أى دور على الاطلاق، مما يرجح أن عوامل أخرى، غير نظريات المفكرين وطموحاتهم، هى صاحبة الأثر الحاسم فى تحديد مجرى التاريخ. هذه النتيجة تثير التساؤل عما إذا كان أقصى ما يمكن أن يطمح إليه المفكر، ليس «تغيير العالم» إلى الأفضل، بل مجرد فهمه. هل هذه هى حقا التنمية (المؤسفة أو المحزنة إلى حد ما) التى يجب التسليم بها؟
إن الميل الشائع إلى الاعتقاد بأن للمفكرين دورا مهما فى تطور التاريخ (وهو ما كنا نعتقده فى صبانا وشبابنا)، وثيق الصلة بالاعتقاد فى فكرة «التقدم»، أى أن التاريخ الإنسانى هو تاريخ تقدم مستمر، من الأسوأ إلى الأحسن، من المتدنى إلى الأرقى (وهو بالمناسبة، اعتقاد يلائم جدا مشاعر الصبى المراهق أو الفتى فى مطلع الشباب). فالمفكرون أيضا لا يفعلون فى العادة إلا وصف ما هو أفضل وأرقى، ودعوة الناس إلى تحقيقه. فإذا كان التقدم المستمر أو التغير إلى الأفضل هو فعلا سنة الحياة، فهذا يرجح وجود علاقة بين ما يدعو إليه المفكرون وبين ما يحدث فى الواقع.
ولكننى مع مرور الزمن وصلت إلى نتيجة مخالفة. الذى يحدث باستمرار، وبلاشك، هو التغير التكنولوجى (أو فلتسمه التقدم التكنولوجى إذا شئت). إذ يبدو أن الإنسان لديه ميل طبيعى لتطوير ما بيده من تكنولوجيا، مدفوعا برغبة طبيعية فى تقليل ما يواجهه من عبء فى سبيل إشباع حاجاته. ولكن التقدم التكنولوجى المستمر لا يعنى بالضرورة (هكذا لاحظت) تقدما مستمرا إلى الأفضل فى جوانب الحياة الأخرى (كالعلاقات الاقتصادية ...الخ). بل إن هناك أمثلة كثيرة فى التاريخ تدل على أن التقدم فى ميدان التكنولوجيا، إلى الأفضل والأسرع والأسهل، قد يؤدى إلى تدهور فى بعض الجوانب الأخرى من حياتنا، كأن تنتشر الفردية، أو تضعف العلاقات الاجتماعية والعائلية، أو يزداد قهر الدولة للأفراد، أو تجسسها عليهم ...الخ.
إننى أعتقد الآن أن التطور التكنولوجى يلعب دورا فى مجرى أحداث التاريخ (خاصة فى المدى الطويل) أهم وأكثر حسما من الدور الذى يلعبه المفكرون، وأن تفاؤلنا القديم بقدرة المفكرين على إصلاح ما فى العالم من فساد، لا تؤيده أحداث التاريخ. لقد قرأت مرة قولا لبرتراند راسل، الفيلسوف البريطانى الشهير، يلخص فيه رؤيته للتاريخ الإنسانى، بأنه «منذ بدء الخليقة، لم يمتنع الإنسان عن ارتكاب أى حماقة وجد نفسه قادرا على ارتكابها». هذه هى النتيجة التى وصل إليها الفيلسوف الكبير وهو فى سن الثمانين، وهى نتيجة قد تبدو مدهشة، ولكنها قد تكون قريبة من الحقيقة حتى لو انطوت على بعض المبالغة. الطريف أن مفكرا كبيرا آخر، وهو الاقتصادى الإنجليزى مينارد كينز، وكان صديقا لبرتراند راسل، كتب مرة معلقا على إصرار برتراند راسل على تقديم النصائح، وكتابة الكتب، وإلقاء الخطب التى يحاول بها «إصلاح العالم»، فقال: «إن مشكلة راسل أنه يصر على تلقيننا كيف يمكن أن نجعل العالم أفضل مما هو، بينما يعترف فى الوقت نفسه، بأن تاريخ العالم، منذ بدء الخليقة، لم يكن إلا سلسلة مستمرة من الحماقات!».
إذا كانت هذه النتيجة هى ما ارتاح إليه الآن، فلا يسعنى إلا أن استغرب موقفنا القديم، عندما كنا أصغر سنا بكثير، من عبارة شهيرة لكارل ماركس، قالها منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وهى: «إن الفلاسفة حتى الآن كانوا مشغولين بمحاولة فهم العالم. ولكن مهمتنا الآن هى أن نقوم بتغييره». كانت هذه العبارة وأمثالها تثير فينا الحماسة ولا نشك فى صدقها، إذ كنا نظن، فيما يبدو، أنها تلخص المهمة الملقاة على عاتقنا: محاولة تغيير العالم، إلى هذا الحد إذن بلغت ثقتنا بأنفسنا فأعتقدنا أننا نستطيع حقا أن نغير العالم؟
أذكر أيضا أننا كنا نشعر بالنفور الشديد من أى حديث عن «التغيير الجزئى» أو «الإصلاح التدريجى». من ذلك ما كنا نشعر به إزاء كتاب الفيلسوف النمساوى كارل بوبر (K. Popper) «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، الذى كنا نقرأه منذ أكثر من خمسين عاما. أذكر أننى لم أشعر بالمرة بالارتياح إلى قوله إن أقصى ما يمكن أن نطمح إليه (بل أفضل ما يمكن أن يحدث) هو إحداث تغييرات صغيرة هنا وهناك، بدلا من محاولة الإطاحة بالنظام القائم بأكمله وإحلال نظام جديد محله. يبدو أن مثل هذا الرأى يصعب أن يعجب شابا فى مقتبل العمر، يظن أنه قادر (هو وجيله) على تغيير العالم تغييرا شاملا، ويتوقع أن يرى هذا التغيير الشامل فى حياته. إننى الآن أعتقد أن الأقرب إلى الحقيقة هو عكس عبارة ماركس بالضبط لتصبح «لقد ظن الفلاسفة حتى الآن أن باستطاعتهم تغيير العالم، مع أن أقصى ما يمكن لنا أن نحققه هو مجرد فهمه!».
ليس هذا فحسب، بل أعتقد الآن أيضا، أن مجرد محاولة الفهم قد تكون من أهم ما يمكن أن يجعل لحياتنا معنى، وأن يضفى عليها البهجة.