«أن تأتى متأخرا خير من أن لا تأتى أبدا».. هذه الحكمة غير مقبولة لدى الشعوب الغاضبة المحتقنة عندما تصم الأنظمة آذانها عن مطالبها فى البداية، خاصة إذا تمخض الغضب عن احتجاجات وتجمعات كبيرة فى الشوارع والميادين، فالأنظمة التى تعنتت طويلا فى تحقيق مطالب شعوبها لا ينفعها الحضور المتأخر.
بعد أن يبلغ الاحتقان من استبداد السلطة وفشلها ومراوغتها، تنزل الشعوب إلى الشوارع لتعبر عن رفضها وغضبها حينها تصبح استجابة أنظمة الحكم لبعض المطالب غير كافية، فالتفكير الجمعى للجماهير المحتشدة يذهب بعيدا ليطالب برحيل تلك الأنظمة وإسقاطها عقابا لها على إغلاقها كل المنافذ واستهانتها بمطالب الناس.
فى تشيلى قررت الحكومة قبل أيام رفع تذاكر قطارات مترو سانتياجو من 800 بيزوس إلى 830 بيزوس «1,04 يورو» أى بنسبة 4% تقريبا فقط، فاندلعت الاحتجاجات فى العاصمة لمدة 5 أيام، مخلفة 15 قتيلا ومئات المصابين إثر اشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين الذين أحرقوا أكثر من 78 محطة مترو، ليخرج الرئيس سباستيان بينيرا على شاشات التلفزيون الرسمى معلنا حالة الطوارئ ويتحدث بعصبية لافتة عن المؤامرة التى تحاك ضد بلاده، ويصف المتظاهرين بأنهم خونة يحاولون جر البلاد إلى الفوضى، واعتبر أن البلد فى حالة حرب.
بعد اتساع رقعة المظاهرات وارتفاع سقف المطالب إلى «رحيل الرئيس»، تراجع بينيرا عن رفع أسعار التذاكر، فلم تهدأ ثورة الناس، فخرج فى خطاب متلفز آخر يعلن تفهمه لمطالب المحتجين ويعتذر عن نقص رؤيته، وقدم حزمة من التدابير الاجتماعية والاقتصادية شملت زيادة المعاش الأساسى الشامل حوالى 20%، وتجميد أسعار الكهرباء، واقترح قانونا يتيح للحكومة تحمل تكاليف العلاج الطبى باهظ الثمن.
وصل الرئيس التشيلى متأخرا، قدم ما كان يفترض أن يقدمه قبل شهور، لم يصغ إلى مطالب شعبه وتعامل معها بعنجهية وصلف فأصبح المطلب الأساسى للشعب الشيلى المطالبة برحيل الرئيس.
فى لبنان خرج المحتجون لرفض ضريبة كانت الحكومة تنوى فرضها على الاتصالات، ولما اجتمع اللبنانيون فى الساحات والميادين عبروا عما يجيش فى صدورهم تجاه تركيبة الحكم الفاسدة، ورفعوا شعار «كلن يعنى كلن»، لتجتمع كل مكونات الشعب اللبنانى على ضرورة رحيل النخبة الحاكمة التى فرضها نظام المحاصصة الطائفية.
جمعت ساحات الشهداء ورياض الصلح والنبطية وصيدا والبقاع وغيرها كل أطياف الشعب اللبنانى، ولم تفلح محاولات رئيس الوزراء المسلم السنى سعد الحريرى فى امتصاص غضب الجماهير التى رفضت تعهدات الرئيس المسيحى المارونى ميشيل عون ولم تلتفت لتهديدات حسن نصر الله زعيم «حزب الله» الشيعى الذى حذا حذو الطغاة فحذر من مؤامرة تحاك ضد بلاده قد تدفعها نحو «الفوضى والانهيار والحرب الأهلية»، فردت الجماهير عليهم جميعا بهتاف «كلن يعنى كلن.. ونصر الله واحد منن (منهم)».
بعد أسابيع قليلة من «يا راجل كبر مخك.. وخليهم يتسلوا» والاستهزاء بمطالب المعارضة وغضب الشارع من تزوير انتخابات مجلس الشعب 2010 وتجاوزات الشرطة فى حق المواطنين، خرج الرئيس الأسبق حسنى مبارك ليلة جمعة الغضب 28 يناير 2011 مطأطأ الرأس يخاطب شعبه بـ«الأخوة المواطنون» معلنا استقالة حكومة أحمد نظيف ومبديا أسفه على سقوط ضحايا أثناء المظاهرات التى عمت البلاد، رفض الشعب محاولات نظام مبارك للالتفاف على ثورته وامتصاص غضبه، ورفع شعار «ارحل ينعى ارحل».
بعدها بأيام قليلة ومع تصاعد حدة الاحتجاجات وتمسك الشعب بمطالبه، ظهر مبارك فى خطاب آخر يعلن فيه عدم ترشحه فى الانتخابات الرئاسية التى كان مقررا لها منتصف 2011 «لم أكن أنتوى الترشح لفترة رئاسية جديدة»، وأكد فى لقاء تلفزيونى أن ابنه جمال لن يقدم على هذه الخطوة.
لو كان مبارك اختار التوقيت المناسب لإعلان عزمه الرحيل وعدم ترشيح ابنه وإقالة الحكومة وحل مجلس الشعب وأفرج عن المعتقلين السياسيين ليلة 26 يناير لما وصلنا إلى جمعة الغضب ولما وصلنا إلى 11 فبراير وما ترتب عليها من آثار امتدت حتى هذه اللحظة.
إن لم تضبط الأنظمة بوصلتها على مطالب الشعوب وحقوقها المشروعة وتسعى إلى تحقيقها فى الوقت المناسب، ستذهب مطالب الناس بفعل تصاعد الغضب والاحتقان إلى أبعد مما تتوقع الأنظمة، ساعتها لن ينفعها أن تأتى متأخرة، فحين تأتى متأخرا فى هذه الحالة عليك ألا تأتى أبدا.