أذكر أننى، منذ عشرين عاما أو أكثر، كنت أحضر مؤتمرا فى عمّان، وأقيمت بمناسبته حفلة عشاء، وقيل لنا إنه من بين الثمانية أو العشرة أشخاص الذين سيجلسون حول كل مائدة من موائد العشاء، سيجلس وزير أردنى. دخلت القاعة متأخرا بعض الشىء، بعد أن جلس معظم المدعوين فى أماكنهم، ورحت أبحث عن المائدة التى يوجد بها اسمى. لم أكن أعرف شكل الوزراء الأردنيين، ولكننى توقعت أننى بمجرد النظر إلى الجالسين حول كل مائدة سوف أكتشف الوزير على الفور، وأميزه عن الآخرين ولكن لدهشتى الشديدة لم أتمكن من ذلك.
كان الجالسون حول كل مائدة يتحادثون وكأنهم متساوون فى المقام، فلم أستطع أن أميز الوزير من بينهم. سألت نفسى: لماذا كنت أتوقع أن أكون قادرا على تمييز الوزير عن غيره بسهولة؟ لابد أن لهذا علاقة بأننى آت من مصر، حيث يسهل فعلا إذا ظهر الوزير مع غيره من الناس أن تعرف بمجرد النظر من هو الوزير. من المؤكد أن الأمر لا يتعلق بملامح الوزير أو نوع ملابسه، بل لابد أنه يتعلق بنظرات المحيطين به وسلوكهم نحوه، حيث يبتسمون له، بمناسبة وبغير مناسبة، وقد يضحكون لأى نكتة أو ملاحظة تصدر عنه، وقد يضاف إلى ذلك بعض الانحناءات.
الظاهرة مصرية جدا للأسف، ويمكن تقديم العديد من الأمثلة على صحتها، فالإشارة إلى أن شخصا ما يحتل منصب وزير أو أنه كان وزيرا فى يوم من الأيام، مهمة جدا سواء فى تعريف الشخص للآخرين، أو فى نشر أخبار الوفاة، أو فى الحرص على تأكيد أن رجلا ما، وإن لم يكن وزيرا بالفعل، يحمل درجة وزير ويتقاضى راتب وزير.
أعرف وزيرا سابقا، مضى على تركه الوزارة أكثر من ثلاثين عاما، ومع ذلك يصر سكرتيره الخاص، إذا اتصل بى تليفونيا ليخبرنى بأن الرجل العظيم يريد التحدث إلىّ على أن يضيف إلى اسمه «معالى الوزير». ووزير سابق آخر أسرّ إلىّ مرة بأن زوجته أصبحت أكثر لطفا معه عندما أصبح وزيرا، كما روى لى صديق أثق بما يقول إن وزيرا آخر عندما عرف أن اسمه قد استبعد من التعديل الوزارى، اتصل تليفونيا بمسئول كبير، وصوته يتهدج وكأنه يبكى، راجيا ألا يسحبوا جندى الحراسة والكشك الخشبى الذى يقام أمام بيت الوزير، ولو لبضعة أسابيع، حتى لا تصاب زوجته بصدمة نفسية. كما وصف لى وزير سابق آخر وظيفة «النطّاط» الذى تقتصر وظيفته على الجلوس بجوار سائق الوزير، ثم القفز قبيل وقوف السيارة تماما، ليفتح للوزير الباب فلا يضطر إلى فتحه بنفسه.. الخ.
لابد أن الظاهرة قديمة جدا، بل أرجح أنها تعود إلى عصر الفراعنة. وحيث إننى لم أشاهد مثيلا لها فى أى بلد عربى آخر، أو غير عربى، فالأرجح أيضا أن لها علاقة وثيقة بظروف مصر الطبيعية، وبالذات بالدور الذى يلعبه نهر النيل فى حياة المصريين، ودور الدولة المهم فى تنظيم الانتفاع بمياه النيل. نعم، هناك دول أخرى لديها أنهار مهمة، ولكننى لا أعرف بلدا آخر يعتمد هذا الاعتماد شبه الكامل على مياه النهر، بسبب ندرة الأمطار ندرة شديدة، مثلما تعتمد مصر. لا عجب إذن فى العبارة التى ذكرها نابليون فى مذكراته عن مصر، التى نقلها عنه جمال حمدان، إذ قال إنه لا يعرف بلدا فى العالم يتوقف ازدهاره أو تدهوره على ما تفعله الدولة، مثلما هى الحال فى مصر.
إذا كان الأمر كذلك، فلا عجب أيضا من ذلك الحرص الشديد الذى يظهره غالبية المصريين على أن يصبحوا قريبين من السلطة أو على الأقل على التقرب إليها. إنك تشاهد هذا فى موقف الفلاح المصرى من الرجل القادم من المدينة، وما يعلقه من أهمية على قدرة هذا الرجل على تقديم بعض الخدمات له، بسبب ما يتوافر له من قرب من السلطة.
فسلطة الدولة منتشرة فى كل مكان، وللدولة أصبع فى كل كبيرة وصغيرة وتتحكم بشكل أو بآخر فى كثير من مصادر الرزق. ومن ثم يمكن للقريب من السلطة «ناهيك عن صاحب السلطة نفسه» أن يحل الكثير من المشكلات «بل وقد يتصور كثيرون أنه يستطيع أن يحل كل المشاكل».
ولكن مما ضاعف هذه الأهمية التى يعلقها المصريون على القرب من السلطة، ما يسود المجتمع المصرى من قديم الزمن من درجة عالية جدا من الطبقية، أى الانقسام الحاد بين طبقتين. فقد كانت فى مصر دائما «ولاتزال بالطبع» شريحة صغيرة جدا من الناس تجلس على قمة الهرم الاجتماعى، تضم أصحاب السلطة والقريبين جدا منها وفى أسفل الهرم قاعدة كبيرة جدا تضم معظم المصريين، غالبيتهم يجدون صعوبة فى الحصول على ضروريات الحياة، والباقون يجدون صعوبة فى تمييز أنفسهم عمن هم أدنى منزلة منهم. هذه القاعدة الكبيرة جدا من المصريين لابد أن تنظر إلى القرب من السلطة تلك النظرة التى وصفتها حالا، ولابد أن يكون «للوزير» فى نظرها، بما يمثله من منتهى السلطة، هذه الأهمية القصوى.
كنت فى صباى، قبل أن تقوم ثورة 1952، كثيرا ما أسمع كلمتى «المحسوبية» و«المحاسيب»، وتعبيرات من نوع «كلمة واحدة من سعادة الباشا»، أو أن هذا الشخص أو ذاك «قد وصى عليه فلان باشا أو فلان بك». ثم حلت طبقة الضباط محل الباشوات والبكوات بقيام الثورة، إذ انتشر الضباط فى كل مكان مهم، فى مقاعد الوزراء، والوظائف الكبرى، ورئاسة الشركات، وسفاراتنا فى الخارج.. الخ، فأصبح من المفيد جدا، إن لم تكن أنت نفسك ضابطا، أن يكون لك قريب ضابط. ولكن مع مرور الوقت على الثورة، واضطرار النظام إلى الاعتماد أكثر فأكثر على غير الضباط، وزيادة الثروة فى أيدى شريحة جديدة من المصريين بسبب سياسة الانفتاح زيادة كبيرة سمحت لهم بالنفاذ إلى أعلى مستويات السلطة، تغيرت من جديد طبيعة تلك الطبقة الصغيرة الجالسة على قمة الهرم، وإن لم يتغير لا حجم السلطة التى يتمتعون بها، ولا درجة الأهمية التى يعلقها الناس على التقرب إليهم.
عندما يكون الأمر كذلك، ليس من الغريب أن تنخفض درجة الأهمية التى يعلقها معظم المصريين عما إذا كان النظام الحاكم يرفع شعارات الاشتراكية أو الرأسمالية، العدالة الاجتماعية أو مجرد «البعد الاجتماعى»، الانغلاق أو الانفتاح، معاداة الغرب أو مصادقته.. الخ. طبعا كل هذا لابد أن يكون له بعض الأثر على أحوال الفقراء ومستوى معيشة الناس، ولكن خبرة المصريين الطويلة أدت بهم إلى الاعتقاد بأن الأهم من كل ذلك فى تحسين أحوالهم هو ما يتيحه القرب من السلطة من مزايا. نعم، الاشتراكية أفضل للفقير من الرأسمالية، ولكن أليس أفضل من هذا وذاك أن تكون علاقتك قوية ببعض الممسكين بالسلطة، أو بأشخاص قريبين منها، سواء كان هؤلاء اشتراكيين أو رأسماليين، منفلتين أو منفتحين؟
لقد اعتاد المصرى على أن الدولة خالدة خلود نهر النيل والأهرامات وكذلك تدخلها فى كل كبيرة وصغيرة، بل لقد اعتاد أيضا أن أصحاب السلطة فى مصر يفضلون فى نهاية الأمر التعامل مع ذلك النوع من الناس، المستعد دائما لتنفيذ الأوامر، على التعامل مع المؤمنين بمبدأ من المبادئ ولا يحيدون عنه، حتى لو كان هو نفس المبدأ الذى يؤمنون هم به ويرفعون شعاراته.
ومن ثم فقد استقر فى نفس المصرى، بخبرته التاريخية الطويلة، الاعتقاد بأن قربه من أصحاب السلطة «أيا كان ما يرفعونه من شعارات» سوف يقربه من تحقيق طلباته، أكثر من أى تغير فى الشعارات أو حتى فى القوانين.
خطر لى ذلك عندما طالعت فى الصحف منذ أيام ما نشر بمناسبة وفاة النائب البرلمانى الراحل كمال الشاذلى، عن تاريخه السياسى والشخصى، وخروج الآلاف المؤلفة من أهل بلدته «الباجور» بمحافظة المنوفية، لتشييع جنازته فى منظر فريد من نوعه، على الرغم من أنه كان قد استبعد من السلطة قبل خمس سنوات. امتلأت الصحف بعبارات العزاء المؤثرة، من مختلف الشرائح الاجتماعية فى مصر، كما أن التعليقات التى نشرتها الصحف لكثير من الأفراد العاديين من أهل بلدته، كانت تشيد به وتثنى عليه بعبارات يندر أن تستخدم فى وصف شخص بعد مفارقته الحياة.
من مطالعة تاريخ الرجل نعرف أنه قبل أن يعتلى مناصب مهمة مثل منصب أمين التنظيم فى الحزب الحاكم، ومنصب وزير شئون مجلسى الشعب والشورى، ظل ينتخب نائبا عن بلدة الباجور فى كل مجلس للشعب طوال 46 عاما، أى منذ 1964، وهى مدة أطول من مدة أى نائب برلمانى فى مصر، وربما فى العالم كله. وعلى هذا استمر الرجل عضوا فى البرلمان فى كل العهود فى مصر، من الاشتراكية المتشددة إلى الرأسمالية المتوحشة، ومن الانغلاق إلى الانفتاح البسيط إلى الانفتاح التام، ومن المعاداة الشديدة للولايات المتحدة وإسرائيل إلى المصادقة الشديدة لهذه وتلك.. الخ.
كان الرجل عضوا مهما فى مختلف الأحزاب الحاكمة فى مصر مع تغير اسمها من الاتحاد الاشتراكى، إلى الاتحاد القومى، إلى حزب مصر، إلى الحزب الوطنى الديمقراطى. حدثت كل هذه التغيرات ولكن ظل الرجل قريبا جدا من أصحاب السلطة، لا يستغنون عنه ولا يستغنى عنهم. لم يسمح الرجل إذن لأى شعارات بأن تخدعه عن «حقيقة اللعبة فى مصر» (وهى العبارة التى استخدمتها مرة سيدة مصرية وصفت بالمرأة الحديدية، إذ كونت ثروة هائلة بسبب اتقانها هذه اللعبة، ثم قدمت للقضاء بتهم مختلفة منها بناء عمارة بدون تصريح فوقعت على رءوس سكانها، ولكنها استطاعت الهرب من مصر ومازالت خارجها).
كان كمال الشاذلى يعرف جيدا ما هو مفتاح النجاح المادى فى مصر، وكيف يستخدمه بمهارة، ولكنه بالإضافة إلى ذلك، وبعكس الكثيرين ممن تتوافر لديهم نفس المعرفة ويستخدمها بمهارة، كان يدرك أيضا الطريق إلى قلوب غالبية المقهورين فى مصر، وهو تلبية حاجاتهم الأساسية العاجلة، من توظيف ابن رجل بسيط لا يجد وظيفة رغم حصوله على الشهادة الجامعية، إلى الحصول على موافقة بالنقل من بلد بعيد إلى بلد قريب، إلى الحصول على فرصة للسفر إلى بلد عربى لتكوين مدخرات تسمح له بالزواج، إلى وضع اسمه فى قائمة المستحقين للسكن فى شقة من الشقق التى بنتها الحكومة.. الخ.
كان كمال الشاذلى ظاهرة مصرية بكل معنى الكلمة، وإن كان سلوكه اليومى وحجمه المادى وصوته وحركاته، أكبر كثيرا من الحجم الطبيعى ومن الحجم المتوسط للمصريين. ظل ملء السمع والبصر حتى غضبت عليه السلطة «لسبب لا يعرفه إلا الراسخون فى العلم» فعين فى تلك الوظيفة المدهشة والمخصصة لمن تغضب عليه السلطة ولا تريد من ذلك إغضابه أكثر من اللازم، وهى وظيفة المشرف العام على «المجالس القومية المتخصصة»، (وهى فيما يبدو متخصصة فى ذلك بالضبط، وأحيانا أسأل نفسى عما إذا كان لدى الفراعنة فى عصور مصر القديمة وظيفة مماثلة تستخدم هذا الاستخدام؟).
على الرغم من إبعاده عن السلطة طوال السنوات الخمس الأخيرة من حياته، ظهر هذا الحشد العظيم من كبراء مصر وهم يشيعون جنازته، وعلى وجوههم أشد مظاهر الحزن والعبس.
حاولت أن أتصور ما الذى يمكن أن يدور بأذهانهم من أفكار عن هذه الشخصية المدهشة. لقد اشترك كثير منهم فى نفس اللعبة، وحققوا من ورائها درجات مختلفة من النجاح، ولكن لابد أنهم فوجئوا، مثلما فوجئت أنا، بتلك الدرجة الهائلة من الشعبية التى حققها الرجل بين أهل بلده، ولابد أن طاف بأذهانهم أنه لاشك فى أنه كان يجيد هذه اللعبة أكثر بكثير مما يجيدونها. بل ولا أستبعد أن يكون هذا هو بالضبط سبب استبعاده من السلطة منذ خمس سنوات.