ذهبت مع عياش ومندوب من السفارة القطرية إلى مقر البوليس فى الدائرة الخامسة عشرة فى باريس، سجلنا دورنا وجلسنا ننتظر، ثم جاءت محققة نادت علينا بعدما يقرب من ساعتين فدخلنا إلى غرفة التحقيق وما إن علمت أنى صحفى وأعمل فى «قناة الجزيرة» حتى تغير الموقف تماما، فعلاوة على الاهتمام خلال إبلاغى بإفادتى تركتنا وذهبت لتبلغ مديرها ثم عادت وقالت لنا إن أى اعتداءات على الصحفيين أو الدبلوماسيين نوليه اعتبارا خاصا وقد أبلغت مديرى بالأمر وأعتقد أنه سوف يبلغ من هو أعلى منه، وقبيل نهاية التحقيق أبلغتنا أن الأمر قد وصل إلى أعلى مستويات الشرطة، سألتنى عما حدث وأبلغتها بالتفاصيل وعما إذا كنت أتهم أحدا قلت لها حتى الآن لا أتهم أحدا، جاء مديرها فأطل علينا وحيانا مرتين دون أن يتدخل وبعد ساعتين تقريبا من التحقيقات صورت لى صورة من أوراق التحقيق ثم طلبت منها أن تعطينى رسالة تتضمن الأوراق الثبوتية التى فقدتها حتى أتمكن من استخراج غيرها، كان عياش يقوم بالترجمة ووقع معى على محضر التحقيق ثم انصرفنا فقد كانت تنتظرى أعمال شاقة، حيث كنا نعد للتصوير مع بنور فى قصر قديم خارج باريس فى منطقة صن ليس يسمى «قصر سان ليس»، وكنت مترددا هل أبلغ بنور بما حدث أم لا كنت متخوفا أن يعتذر أو يؤجل وقد قضيت عدة أشهر فى القراءة والإعداد، وفى النهاية قررت أن أبلغه حتى لو قرر الاعتذار عن التسجيل، ذهبت إليه فى منزله ودار الحديث حول جوانب كثيرة ثم أبلغته بما حدث، كان بنور ينصت إلى باهتمام شديد ولم يتردد لحظة واحدة بعدما أكملت الرواية فى أن يقول لى «لقد فعلها بن على» إنها ليست بعيدة عنه على الإطلاق، أنا أعرفه وأعرف كيف يفكر وأنا لا أستبعد أن الحقائب لديه الآن فى قصر قرطاج وقد فتحت أمامه فهو يستمتع بهذه التفاهات وهى محور حياته، قلت له: إلى هذا الحد؟ قال: وأكثر من ذلك، من المؤكد أنهم رصدوا تحركاتنا عبر عيونهم هنا ويعلمون أنك ستسجل معى «شاهد على العصر» أو اعتقدوا أنك قد سجلت بالفعل وأن الأشرطة فى تلك الحقائب لذلك سطوا عليها أو على الأقل أرادوا إزعاجك وتخويفك، وليس عندى أدنى شك فى أن هؤلاء الموظفين التوانسة الذى يعملون فى الفندق قد أبلغوا عنك فور وصولك وتم ترتيب كل شىء بعد ذلك عن طريقهم، وروى لى بنور تفاصيل مثيرة عن شبكة الاستخبارات التى أسسها بن على فى فرنسا وكيف قاموا بإيذاء كثير من المعارضين فسببوا لبعضهم عاهات مستديمة أو جروحا غائرة، منهم أستاذ جامعى ومفكر تونسى مشهور يقيم فى فرنسا حتى أن بعض الإصابات كادت تفضى للموت فى بعض الأحيان وكل القضايا كانت تسجل ضد مجهول فى النهاية، كان بنور منزعجا مما حدث لى إلى حد كبير لكنه لم يبد لى أى تردد أو تراجع فى التسجيل بل كان أكثر حماسا من ذى قبل، أبلغته أن التصوير سيكون فى قصر قديم خارج باريس يدعى «قصر سان ليس» وأخبرته أن عياش سوف يتواصل معه لإبلاغه بالمكان وترتيب الذهاب إليه ثم ودعته وذهبت لأعكف على وضع آخر النقاط على الحروف لتسجيل الشهادة.
حينما عدت إلى الفندق وجدت المدير قد ترك لى رسالة فى الغرفة أنه يريد مقابلتى فى الصباح لأنه انتظرنى طوال اليوم لكنى لم أعد حتى غادر مكتبه، وحينما التقيته فى الصباح كانت معه مديرة العلاقات العامة وقال لى إنه استطاع أن يصل إلى الفاعلين عبر مراجعته للأشرطة وأنه شاهد بشكل واضح عملية سرقة حقائبى من غرفة الأمانات، بعدما راجع الأشرطة دقيقة بدقيقة ووصف لى الحقائب كما أعرفها، غير أنه رفض إعطائى أية تفصيلات عن الفاعلين، حاولت معه عبر أسئلة كثيرة أن أصل للفاعلين لكنه قال لى: أرجو ألا تحرجنى لأن الأمر يتعلق بسمعة الفندق والشركة المالكة له، لكنى سلمت كل شىء للبوليس حينما جاءوا للفندق أمس بعد بلاغك وسلمتهم الأشرطة والأمر كله لديهم الآن، أما من ناحيتنا فقد أبلغنا شركة التأمين بالمفقودات بناء على المحضر الذى أعددناه وأرجو أن تعطينا صورة من محضر البوليس حتى نتابع الأمر معهم قلت له سأذهب غدا لمحام فرنسى لمتابعة الأمور لأن الأمر بالنسبة لى ليس سرقة حقائب ولكنه أكبر من ذلك وسوف يتعامل المحامى معكم فى هذه الجوانب، كرر الرجل أسفه مرة أخرى وقررت بعدما ذهبت للمحامى مع عياش أن أترك الأمور بين يديه وأن أفرغ ذهنى من كل شىء إلا تسجيل شهادة بنور.
بدأنا التسجيل فى «قصر سان ليس» الذى يعود بناؤه للقرن السادس عشر، ويبعد عن باريس ما يقرب من ساعتين بالسيارة، وبينما كنا منهمكين فى التصوير فى اليوم الأول اتصل البوليس على هاتف عياش وتركوا له رسالة يطلبون فيها منى الذهاب فى اليوم التالى إلى مقر دائرة التحقيقات القضائية فى الدائرة الرابعة عشرة وليس الخامسة عشرة التى أبلغنا فيها مما يعنى أن الأمر أخذ بعدا آخر فى التحقيقات بعدما علمت أن هذه الدائرة بها أفضل فرق البوليس الفرنسى لمكافحة الجريمة حتى أن بعض القضايا يتم صناعة مسلسلات تليفزيونية من أحداثها، قلت لعياش لن أذهب إلا بعدما أنهى تسجيل الحلقات، أبلغهم أنى سوف أذهب بعد خمسة أيام حينما ننتهى من التسجيل ومن حلقة «بلاحدود» القادمة، وبالفعل اتصل عليهم عياش، وكانوا متعاونين إلى حد بعيد، ورتب موعدا فى الساعة العاشرة صباحا وأخذ اسم المحقق وجميع التفصيلات، وحينما أبلغت بنور قال إن الأمر قد تطور وهذه دائرة تحقيقات عليا، ومن المؤكد أن الأمر قد أخذ على محمل الجد كما وعدوك.
ما لاحظته فى الفندق أن يوسف ومحمد قد اختفيا تماما لم أعد أراهما فى دخولى وخروجى ولم أسأل عنهما لكن الفتاة كانت لاتزال تعمل وكلما رأتنى أبدت خجلها وأسفها لما حدث، أبلغنى مدير الفندق أنه شدد الأجراءات الأمنية على غرفتى وحدد من يدخلها من العاملين للنظافة وغيرها، شكرته على أى الأحوال على حسن اهتمامه وانغمست ما يقرب من أسبوع فى العمل حتى أنهيت تسجيل حلقات بنور وكان آخر يوم فى التسجيل هو اليوم الأول من شهر رمضان الماضى واحتفاء بإنجاز التصوير وبالأول من رمضان تناولنا الفطور فى مطعم مغربى فى قرية صغيرة قريبا من «قصر سان ليس» وقد احتفى بنا أصحاب المطعم الذى لم يتوقعوا أن يرونا فى مطعمهم يوما ما، غير أن طرفة عجيبة وقعت فى اليوم الأخير للتصوير نستكمل بها القصة، فقد تصادف أن سائق التاكسى الذى ركبته فى اليوم الأخير حتى يأخذنى إلى «قصر سان ليس» كان تونسيا وقد علمت ذلك منه بعدما ركبت معه التاكسى، حيث تعرف على مباشرة ورحب بى قبل ركوبى وقد أعطيته عنوان «قصر سان ليس» مكتوبا فى ورقة مع كود المكان فقرأ سان ليس على وجه السرعة دون أن ينتبه للحرف الأخير من اسم المدينة أو كود المنطقة وقال بسرعة: «أنا أعرف هذه المدينة» قلت له: لو أدخلت المكان بالكود على جهاز التوجيه الذى يعمل بالأقمار الاصطناعية يكون أفضل لأن القصر يقع فى طريق فرعى صغير بعيدا بعض الشىء عن المدينة، قال: أنا أعرف المكان جيدا لا تقلق سنذهب للمدينة، وطالما أنك تعرف القصر فسوف نصل بسهولة، قلت له: كما ترى، انطلقنا بالسيارة وبدأ حديثه بتوجيه النقد الشديد لنظام بن على وأنا أنصت ولا أتكلم ثم قال لقد سجلت حلقة من برنامج «ما وراء الخبر» بثت قبل أيام على شاشة الجزيرة عن الوضع فى تونس ويمكنك مشاهدتها فهى معى هنا وفتحها فعلا على فيديو السيارة، لاحظت أن الطريق الذى مشى فيه كان غير الطريق الذى أسلكه عادة فى طريقى إلى قصر سان ليس فقلت له: هذا الطريق أشعر أنه ليس الطريق الذى أذهب منه عادة إلى «قصر سان ليس»، قال: أنا أعرف «سان ليس» لا تقلق، قلت له: لست قلقا على الإطلاق ولكنى ذهبت عدة مرات إلى «قصر سان ليس» وأعتقد أنه من طريق آخر، قال: هذه اللافتات على الطريق تشير إلى سان ليس كما ترى وفعلا كانت اللافتات تشير إلى سان ليس، فقلت ربما يعرف الرجل طريقا آخر لكنى لاحظت أن الطريق قد طال على غير العادة واتصل عياش يستبطئنى، فقت له إننا فى الطريق، اتصل مرة أخرى فقلت له كما أخبرنى السائق: نحن على مشارف المدينة، ثم أدخلنى السائق مدينة غريبة على وقال: هذه سان ليس أين القصر؟ قلت له: هذه ليست سان ليس أنا لا أعرف هذه المدينة؟ قال: هذه اللافتات أما تقرؤها؟ قلت له: أقرؤها ولكن أنا أعرف المدينة الأخرى وأخبرتك أن هذا ليس الطريق الذى أسلكه كل يوم، اتصلنا على عياش وتركته يشرح الأمر للسائق، ففوجئنا مفاجأة غير سارة على الإطلاق أن هناك مدينة فعلا تحمل اسم سان ليس وتفرق عنها حرفا واحدا فى نهاية الكلمة، لكنها فى الجهة المقابلة لقصر سان ليس وأننا أصبحنا بعيدين عن قصر سان ليس نحو مائتى كيلو متر، كان عياش غاضبا ومتوترا على الهاتف لاسيما حينما علم من حديثه مع السائق أنه تونسى وخشى أن يكون هذا كمينا لى بل قال لى وهو غاضب إنه يخشى أن أكون قد تعرضت لعملية اختطاف هذه المرة، غرقت فى الضحك بينما كان عياش غاضبا لكنى كنت هادئا إلى حد بعيد ومستبعدا تماما لهذا الأمر، أعطيت السائق الورقة التى عليها العنوان وقلت له لا تتحرك إلا بعد أن تدخلها على جهاز التوجيه، ثم قال لى: أعتذر إليك لقد أخطأت خطأ كبيرا لم أقرأ الاسم جيدا والفارق بين اسم المدينتين حرف واحد فى نهاية الكلمة لكنهما تنطقان نطقا واحدا، انطلق بعد ذلك بسرعة جنونية أخذت تزيد حتى قاربت مائتى كيلو متر فى الساعة، قلت له بهدوء شديد أنا لست متعجلا وأرجو أن تلتزم بالسرعة القانونية للطريق وأن تهدأ، قال: أنا أخشى أن أؤخرك عن عملك، قلت له: أن أتأخر قليلا خير من أن تقود بهذه السرعة التى يمكن أن تؤدى إلى حادث ولا نصل على الإطلاق، هدأ الرجل واعتذر ووصلنا متأخرين أكثر من ساعتين عن موعدنا وكان عياش يتصل كل عشر دقائق ليطمئن أنى لم أختطف بعد، وكلما اتصل غرقت فى الضحك فقد كنت أدرك أن السائق رجل مسكين وأن خطأه غير مقصود، لكن ترابط الأحداث جعل هذا الأمر غير عادى بالنسبة لعياش والأستاذ بنور الذى كان قلقا هو الآخر حتى وصلت إلى قصر سان ليس فوجدتهم جميعا بالخارج ينتظروننى على الطريق وكأنى نجوت من عملية اختطاف كان يدبرها بن على هذه المرة.
نعود إلى المحقق فى قسم الشرطة القضائية فى الدائرة الرابعة عشرة الذى سألنى بعد خمس دقائق من سماع أقوالى من تتهم قلت له: أتهم الرئيس التونسى زين العابدين وأجهزة مخابراته بسرقة حقائبى، وأخبرته أنهم ربما اعتقدوا خطأ أنى قد أنهيت التسجيل وأن الأشرطة فى الحقائب أو أنهم أردوا إزعاجى وتهديدى حتى لا أسجل، سألنى المحقق فى النهاية هل لك أقوال أخرى؟ قلت له نعم: إذا كان شريط التصوير فى الفندق الذى شاهدناه قبل قليل لعملية السرقة أظهر الشابين التونسيين محمد ويوسف وقد استقبلا شخصا ثالثا يوم السبت ظهرا أى يوم العطلة التى يقل فيه حتى عدد الموظفين ولا يوجد فيه الموظفون الكبار فى الفندق، ودار بينه وبين كل منهما حوار ثم دخلا وخرجا عدة مرات كما رأينا إلى حيث غرفة الأمانات بشكل يوحى بالقلق والتوتر وربما الخوف، حيث لم يظهر موظفون آخرون أمام الكاميرا فى ذلك الوقت مما يعنى أنهم اختارو الموعد بعناية، ثم رجعا إلى هذا الشخص وسمحا له بالدخول إلى غرفة الأمانات التى هى فى مكان لا يدخله غير موظفى الفندق المصرح لهم ثم سلماه حقائبى ورأيناه يخرج بها إلى سيارة كانت تنتظر فى الخارج، أليست أركان الجريمة واضحة بشكل تام لماذا لم تقبضوا عليهم حتى الآن؟ قال المحقق: كل ما تقوله صحيح لكننا هنا لسنا أمام قضية سرقة، لكن الأمر أكثر تقعيدا من ذلك إنها قضية «أمن دولة» بالنسبة لنا الآن، ومن المؤكد أنهما نفذا الأمر لصالح شبكة ربما تكون استخباراتية أو إجرامية نريد أن نصل إليها ونحن نبحث الآن فى سجلاتنا عن هذا الشخص الثالث الذى جاء وأخذ الحقائب، من السهل أن نقبض عليهما لكن القانون لا يمنحنا الحق فى احتجازهما أكثر من 48 ويمكن لهما أن ينكرا أو تصبح القضية قضية سرقة فى النهاية يسجنان عدة أشهر ثم يخرجان لذا أرجو أن تمنحنا الوقت حتى نصل إلى نتيجة، لقد ترك كل منهما العمل فى الفندق فور سرقة الحقائب، قدم استقالاتهما مما يعنى أن الأمر مدبر، وبينما بقى يوسف فى باريس فر محمد إلى مدينة فى الجنوب ونحن نراقبهما ونأمل أن نصل قريبا إلى نتيجة.
علمت بعد ذلك أن البوليس الفرنسى قد قبض على محمد ويوسف وقد أنكرا كل ما ورد فى الأشرطة المصورة لهما فى عملية السرقة ولم يقفا عند هذا الحد بل أنكرا أنهما قد التقيا معى فى الفندق أو يعرفانى أو يعرفان أى شىء عن حقائبى، ولأن فرنسا بلد قانون أفرجت عنهما السلطات على ذمة القضية بعد ثمانى وأربعين ساعة دون ضرب أو تعذيب حتى يعترفا كما يحدث فى بلادنا، والقضية مازالت منظورة أمام القضاء الفرنسى لأن صور السرقة واضحة وهى دليل اتهام دامغ لكن المتهم الرئيس فى القضية الرئيس التونسى الهارب المخلوغ زين العابدين بن على وأجهزة استخباراته قد ثأر الشعب التونسى لنفسه ولى منه، لكنى سأظل ألاحقه فى محاكم باريس بتهمة سرقة حقائبى بعدما سرق تونس وآمال شعبها وأحلامهم طيلة ثلاثة وعشرين عاما، وسوف أوافيكم بالفصل الأخير من القصة حينما أصل لمعلومات جديدة من البوليس الفرنسى.