بعدما أعلن د.محمد البرادعى منذ ستة أسابيع انسحابه من الترشح لرئاسة الجمهورية لعدم اقتناعه بسلامة المسار السياسى (تحديدا يوم 14 يناير) توارى قليلا عن الساحة، ثم عاد للظهور وبقوة خلال الأسبوع الماضى، متحدثا فى البرامج التليفزيونية، وداعيا لاجتماع فى نقابة الصحفيين لعدد من رموز العمل السياسى، وطارحا وجوده على الساحة العامة مرة أخرى. وبرغم أن هذه ليست المرة الأولى التى ينزوى فيها د.البرادعى ثم يعاود الظهور إلا أن الأمر هذه المرة أكثر خطورة، لأن الترشح لانتخابات الرئاسة سيبدأ بعد أيام قليلة، والانتخابات نفسها صارت وشيكة، وبالتالى فالموضوع لا يحتمل غموضا أو ترددا أو ضياعا للوقت.
كذلك فإن «عودة البرادعى» هذه المرة تأتى فى ظروف شديدة الدقة: فالمسار السياسى مضطرب فى ظل الأداء الضعيف للبرلمان وعدم وجود تأييد كافٍ لأى من مرشحى الرئاسة. والوضع الأمنى شديد الخطورة ويزداد سوءا منذ مذبحة بورسعيد وكأن هناك عقابا مقصودا توقيعه على الشعب المصرى. والحالة الاقتصادية بالغة الصعوبة بينما الحكومة عاجزة عن التعامل معها لأنها لا تملك الشرعية التى تتيح لها اتخاذ القرارات الضرورية، ودولة القانون مهددة تحت وطأة الرأى العام والضغط الإعلامى وحلول المجالس العرفية محل مؤسسات القانون. باختصار فإن الوطن منقسم، وانقسامه خطير، والناس أمسكت بخناق بعضها البعض، والشعب يبحث عمن يعيد إليه الأمل فى بناء مستقبل جديد ويخرجه من حالة الاحباط التى أصابته بسبب عدم التقدم فى أى مسار.
فى هذه الظروف المتفجرة، يعود د. البرادعى وسط حديث عن توحيد القوى المدنية والديمقراطية فى تيار واحد، وعن استمرار الثورة، وعن تأسيس حزب جديد، بل قيل إنه يفكر مرة أخرى فى الترشح للرئاسة وإن كان هو شخصيا نفى هذا الأمر. لذلك، وبرغم معرفتى المحدودة بالدكتور البرادعى، إلا أننى سأسمح لنفسى بأن اقترح عليه أنه طالما قرر عدم الترشح، فإن عليه القيام بدور أهم وأخطر بكثير من رئاسة الجمهورية، وهو دور لا يقدر غيره على القيام به فى الظروف الحالية، ولا يحتمل الانتظار.
هذا الدور هو حشد الجماهير وراء المواقف التوافقية العامة التى يحتاجها المجتمع اليوم، وتجميع القوى السياسية حول المشترك بينها بدلا من استمرار التناحر الذى يوشك أن يضيع البلد، وتكوين رأى عام وطنى وراء عدد من القضايا المصيرية التى لا تحتمل الخلاف. باختصار فإن بإمكان د.البرادعى اليوم أن يقوم بدور «الأب الروحى» للدولة المصرية الحديثة بدلا من أن يكون رئيسها التنفيذى، وهو دور سبق له القيام به من قبل حينما صار «الأب الروحى» للثورة وأحد رموزها الرئيسية، ونجح فى حشد الرأى العام وراء فكرة التغيير وقتما كانت تبدو مستحيلة، وفى جعل الناس يتجاسرون على التفكير فى مستقبل جديد لمصر.
ولكى لا يكون الكلام نظريا، فإننى أقترح تحديدا أربع قضايا رئيسية أدعو د.البرادعى لأن يضع ثقله السياسى والمعنوى وراءها:
ــ القضية الأولى، هى تشكيل لجنة صياغة الدستور، بحيث تأتى هذه اللجنة معبرة عن الضمير الجماعى لمصر وعن توافق المجتمع وعن سلامة تمثيل كل فئاته وطوائفه وطبقاته.
ــ القضية الثانية، هى المساهمة فى وضع تصور لكيفية الوصول إلى رئيس منتخب، ودستور توافقى، وحكومة تستمد شرعيتها من الناس، وانتقال للسلطة إلى الحكم المدنى.
ــ أما القضية الثالثة، فهى إيجاد اجماع وطنى وشعبى حول الإجراءات العاجلة للخروج من الازمة الاقتصادية الحالية، ومن الانفلات الأمنى، ومن الانهيار القانونى، بعيدا عن التنافس والتناحر السياسى والحزبى.
ــ وأخيرا فإن القضية الرابعة، هى تجميع الرأى العام المصرى للدفاع عن المبادئ الدستورية والقيم الرئيسية التى تمثل أسس الدولة الحديثة، بحيث تكون مرجعا لمن سوف يشاركون فى كتابة الدستور القادم، دون أن تكون مفروضة عليهم، إلا من خلال تأييد هذا الرأى العام لها.
أقول هذا وأنا مدرك أن د. البرادعى، مثله مثل كل السياسيين، شخصية خلافية ولا يتفق عليها الجميع، وأنه خلال الأشهر الماضية تعرض لانتقادات كثيرة من خصومه حول مواقفه السياسية والفكرية، بل ومن أنصاره بسبب تردده فى مواقف تحتاج الحسم، ومن اختفائه من الساحة فى أوقات حرجة، ومن عزوفه عن خوض المعركة الانتخابية بالحماس الكافى. ولكن فى تقديرى أنه يظل الأقدر على حشد تأييد واسع بين أنصار التغيير والبناء والتقدم، وأن انسحابه من الترشح للرئاسة قد يكون نعمة للوطن لأنه يعيده إلى ملعبه الحقيقى الذى لا ينافسه فيه أحد، وهو تجميع الناس وراء مشروع للتغيير وللنهضة، غير مرتبط بالتنافس الانتخابى، ولا بكسب ود الإعلام، ولا باستجداء عطف الأحزاب السياسية، ولا بمتابعة الشائعات ومحاولة الرد عليها.
أتمنى ألا تكون خطة د. البرادعى هى تشكيل حزب جديد، أو بناء تيار سياسى، أو المنافسة على مناصب من أى نوع، فما يحتاجه البلد اليوم هو بناء مرجعية وطنية حول أشخاص ذوى ثقل سياسى ومعنوى يمنحونه قدرا من الاتفاق ومن وضوح الرؤية ومن سلامة البصيرة، بعيدا عن التنافس الانتخابى، وعن الصراعات الحزبية، وعن المعارك السياسية العقيمة التى انشغل المجتمع بها فى الأسابيع القليلة الماضية. وهذا دور يمكن للبرادعى أن يقوم به وأن يجمع حوله آخرين ممن يشاركونه ذات العزوف عن المناصب والسلطة، وذات القبول لدى الناس، وذات القدرة على حشدهم مرة أخرى وراء فكرة التغيير والتقدم وبناء المستقبل.
لو فعل د.البرادعى هذا فسيكون قد خدم مصر والمصريين أكثر بكثير مما يمكن أن يحققه لو صار رئيسا للجمهورية. فهل يقبل هذا التحدى الجديد؟