تداول بعض السياح فى مصر مؤخرا منشورات على شبكات التواصل الاجتماعى، تتضمن صورًا مثيرة للقلق لأعمال حفر من أجل تشييد فندق فى محمية وادى الجمال، التى تحمى ٨٠ كيلومترا فقط من إجمالى أكثر من ألف كيلومتر من الساحل المصرى على البحر الأحمر. وتجرى أعمال الحفر هذه فى واحدة من أكثر المناطق نقاءً وجمالًا على ساحل البحر الأحمر وهى رأس حنكوراب، التى تعد ملاذًا حيويًا لعدد كبير من الكائنات البحرية والصحراوية، إلى جانب كونها موقعا هاما لتعشيش السلاحف البحرية، التى تُجذب السياح من جميع أنحاء العالم.
إن السماح بإقامة مشروع كهذا من شأنه تقويض مصداقية مصر فى المحافل الدولية، بما فى ذلك مؤتمر أطراف الاتفاقية الإطارية (COP) والاتفاقية المتعلقة بالتنوع البيولوجى (CBD) ومنظمة السياحة العالمية وغيرها، حيث وضعت مصر نفسها كقائدة تطالب بالتعويضات وتدعو إلى تبنى سياسات بيئية تقدمية. ولن تمر هذه الازدواجية مرور الكرام على المجتمع الدولى، أو على السائحين المهتمين بالبيئة، مما سيؤدى إلى تشويه سمعة البلاد.
فى السنوات الأخيرة تُبذل جهود من مختلف أنحاء العالم، وخاصةً من الجنوب العالمى، لمحاسبة المتسببين فى أزمة المناخ، أى الدول الصناعية التى استخرجت مواردنا فى الجنوب العالمى لإثراء نفسها على حساب تدمير الكوكب، الأمر الذى تشتد آثاره على المجتمعات الضعيفة والمهمشة. لقد كان من دواعى سرورى أن أرى المفاوضين المصريين فى المحافل الدولية يطالبون دول الشمال العالمى بتحمل مسئولية انبعاثاتها التاريخية ودفع ثمن العواقب. وخلال المؤتمر السابع والعشرين للأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP27) فى شرم الشيخ، نجحت الرئاسة المصرية للمؤتمر فى تحقيق إنجاز تاريخى عبر الحفاظ استراتيجيًا على وحدة الجنوب العالمى، وتمرير قرار بإنشاء صندوق لتغطية الخسائر والأضرار الناجمة عن أزمة المناخ. وبالإضافة إلى ذلك، أثناء المفاوضات بشأن الاتفاقية المتعلقة بالتنوع البيولوجى (CBD)، كان مفاوضونا من بين كتلة البلدان التى تطالب الشمال العالمى بتوفير التمويل اللازم لدعم بلدان الجنوب العالمى فى حماية التنوع البيولوجى، لما له من أهمية بالغة للمجتمعات المحلية والتنمية الاقتصادية المستدامة، وذلك عن طريق تمويل المحميات الوطنية.
بالتوازى مع ذلك، قضت وزارة السياحة سنوات فى تطوير الاستراتيجية الوطنية للسياحة المستدامة بمصر ٢٠٣٠، ووضعت لوائح خاصة بالنزل البيئية وأطلقت حملة دولية للإعلان عن مصر البيئية. وقد بدأت البلاد فى جنى ثمار هذه الجهود؛ ففى عام ٢٠٢٣، اختارت منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة سيوة ودهشور ضمن قائمة أفضل القرى الريفية السياحية فى العالم، ومنحتهما جائزة لتلبيتهما للمعايير التى وضعتها المنظمة فى هذا الإطار.
من الجدير بالذكر أن السياحة الموجهة نحو حماية البيئة تجذب زوارًا يقدرون الاستدامة ويساهمون بشكل كبير فى الاقتصاد المحلى. فى المقابل، فإن السياحة الصناعية — التى تتسم بالإفراط فى التوسع العمرانى والتدهور البيئى لصالح الأسعار الزهيدة — تؤدى إلى أضرار طويلة الأجل للبيئة ولقطاع السياحة ذاته. وعليه، يتجه العالم الآن نحو نماذج السياحة المستدامة فيما ستواجه مصر خطر التخلف عن الركب إذا اختارت تخريب تراثها الطبيعى بدلًا من الحفاظ عليه.
حماية البيئة ليست ترفًا بل أمر ضرورى لحماية المجتمعات والاقتصاد الوطنى، إضافةً إلى كون النظام البيئى الساحلى للبحر الأحمر شريانًا لحياة الاقتصادات المحلية حيث يعتمد الصيادون والقبائل الساحلية والمشروعات التجارية الصغيرة — من العاملين فى الفنادق ومجال الغوص إلى المطاعم وسائقى وسائل النقل — على البيئة البكر فى المنطقة. وبالتالى، فإن السياسات أو المشروعات العشوائية التى تسعى إلى تحقيق أرباح قصيرة الأجل يمكن أن تدمر سُبل عيش المجتمعات بطول الساحل وكذلك القطاعات الاقتصادية التى تؤثر على مئات الآلاف من المصريين، وذلك لأن حماية البيئة والمناخ ليست ترفًا بل ضرورة لرخاء شعبنا وركيزة أساسية للعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
أهمية شواطئ البحر الأحمر محلية وعالمية
هذا ولا تقتصر أهمية البحر الأحمر المصرى على من يعيشون على شواطئه فحسب، ولكن مع تزايد حدة وتواتر تأثيرات تغير المناخ أصبحت حمايته أولوية عالمية؛ إذ أوضحت الدراسات أن الشعاب المرجانية فى شمال البحر الأحمر الأكثر قدرة على الصمود بشكل طبيعى فى مواجهة أزمة المناخ حيث تشير التوقعات الحالية إلى أنه بحلول عام ٢٠٥٠ سوف تتدهور ٩٠٪ من الشعاب المرجانية حول العالم من الناحية الوظيفية. وبما أن الشعاب المرجانية تدعم أكثر من ٢٥٪ من الحياة البحرية على مستوى العالم ويعتمد عليها بشكل مباشر حوالى مليار نسمة، فمن الضرورى حمايتها فى شمال البحر الأحمر لكونها آخر الشعاب المرجانية المتوقع لها البقاء — ولعلها تُصبح مصدر إعادة إحياء الشعاب المرجانية على كوكب الأرض. ولذلك فإنه من ضرب الجنون أن نقوم بأى أعمال تشييد أو بناء فى ما نمتلك من مناطق محمية قليلة على طول الساحل.
على وجه الخصوص، فإن رأس حنكوراب مساحة عامة يتقاسم فوائدها الكثيرون حيث تنظم الفنادق فى مختلف أرجاء مرسى علم وخارجها رحلات يومية إلى الشاطئ باعتباره عامل جذب سياحى مفتوحا للكافة وليس مساحة حصرية لمستثمر فرد. إن خصخصة أجزاء من وادى الجمال، أو أى محمية وطنية أخرى، لن تؤثر على السياحة الدولية فحسب، بل ستحرم المصريين من حقهم الأصيل فى الوصول إلى تراثهم الطبيعى والتمتع به.
ومن المهم أيضًا توضيح أن الشعاب المرجانية فى البحر الأحمر المصرى شعاب مرجانية حافية (ﻭﻫﻰ ﺘﻠﻙ التى ﺘﻨﻤﻭ ملاصقة ﻟﻠﺸﺎﻁﺊ ﻭﺘﺤﻑ ﺒﻪ ﻋﻠﻰ ﻁﻭل ﺍﻟﺴﺎﺤل)، وبالتالى تُشكل حاجزًا ضحلًا يمنع السباحة على معظمه فيما يقتصر الوصول إلى المناطق الرملية الأعمق على الخلجان والمراسى القليلة فى المنطقة، والتى تعد رأس حنكوراب من أكبرها حجمًا ما يجعلها مكسبًا لكثير من فنادق المنطقة التى لا تملك إمكانية الوصول. وتوجد حاليًا خطط لإنشاء ٢٧ منتجعًا جديدًا مباشرة إلى شمال محمية وادى الجمال، ومن المتوقع أن تعتمد هذه المنتجعات بشكل كبير على حنكوراب، ولذلك فإن تقييد الوصول عبر بناء فندق فى هذه المنطقة سوف يقوض استثمارات الكثيرين لصالح مستثمر فرد.
يُذكر أنه خلال الأيام الأولى من عملى على طول ساحل البحر الأحمر، تعاون البيئيون مع محافظ البحر الأحمر آنذاك من أجل حماية إحدى الأنواع الرئيسية؛ إذ أفادت دراسة بأن أسماك القرش، وتحديدًا أسماك قرش النمر وغيرها من الأنواع الكبرى، التى بيعت كلحوم مقابل ٣٥ جنيها مصريا للكيلوجرام كانت ستولد كل منها ما يصل إلى ٢٠٠ ألف دولار أمريكى كل عام من دخل السياحة فى منطقة مثل جزر الإخوة، مما أدى إلى قرار المحافظ بحظر صيد أسماك القرش والاتجار بها وحيازتها الأمر الذى أصبح فيما بعد قانونًا وطنيًا نالت مصر عليه إشادات عالمية وجوائز عديدة، إضافةً إلى تعزيزه للسياحة فى قطاع الغوص. والآن، تحظى حماية مواقع تعشيش السلاحف، التى تقلصت أعدادها على طول الساحل المصرى على البحر الأحمر، بسبب تسارع البناء فى المنطقة على مدى الثلاثين عاما الماضية، بنفس القدر من الأهمية.
وحتى إذا التزم الفندق المخطط بناؤه بأعلى المعايير البيئية، فإن الموافقة عليه سابقة خطيرة لأنها تمهد الطريق لأعمال تطوير أقل مسئولية فى مختلف المحميات الوطنية بمصر الأمر الذى سيخلف عواقب وخيمة؛ فأى محاولة لتخفيف حدة الآثار، أيًا كانت جديتها، لن تبرر تطبيع مثل هذه المشروعات داخل المناطق المحمية.
أتمنى ألا تحل مصلحة مستثمر فرد محل الصالح العام، وأهيب بوزارة البيئة والهيئة العامة للمحميات الطبيعية ووزارة السياحة اتخاذ إجراءات حاسمة، والقيام بذلك بشفافية كاملة، وأخيرًا، أدعو المجتمع المدنى فى البحر الأحمر والمنظمات غير الحكومية البيئية فى جميع أنحاء البلاد إلى التفاعل مع هذه القضية من أجل الصالح العام ومستقبل الأجيال القادمة.