تحولت الحرب الروسية الأوكرانية إلى حرب استنزاف، إذ لا تستطيع موسكو تحقيق أهدافها، كما وصل دعم الولايات المتحدة وحلفائها لكييف إلى حد استنفاد إمدادات الذخيرة الحرجة، والاتجاه نحو زيادة تصنيع الأسلحة. فى ضوء ذلك، نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب براهما شالينى، يرى فيه أن الصين هى الرابح الأكبر من إطالة أمد الحرب فى أوكرانيا، إذ ستعمل بكين على دعم موسكو عسكريا بشكل غير مباشر حتى تدفع الغرب إلى زيادة توريد الأسلحة لأوكرانيا، مما يعيق تصدى واشنطن لأى غزو صينى محتمل ضد تايوان. لذلك من مصلحة واشنطن تسوية الحرب فى أوكرانيا... نعرض من المقال ما يلى.يوحى الاجتماع الذى دار وجها لوجه فى نيودلهى أخيرا بين وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن ووزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف ــ وهو أول تفاعل على هذا المستوى الرفيع منذ بداية الغزو الروسى الشامل لأوكرانيا ــ بأن الدبلوماسية ربما لم تعد كلمة لا طائل من ورائها.
عُـقِـد اللقاء الذى دام عشر دقائق على هامش اجتماع مجموعة العشرين بعد أن وردت تقارير مفادها أن مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان حث أوكرانيا على أن تُـظـهِـر لروسيا أنها منفتحة على التفاوض على إنهاء الحرب. تقدم هذه التطورات الأخيرة مجتمعة بصيصا من أمل فى أن يكون وقف إطلاق النار فى حُكم الممكن.
• • •
الواقع أن الحرب الدائرة فى أوكرانيا، والتى زعزعت أركان النظام الدولى، هى من نواحٍ كثيرة حرب بالوكالة بين القوتين الرئيسيتين فى العالَـم، حيث تتلقى روسيا الدعم من الصين وتقدم الولايات المتحدة الدعم لأوكرانيا. على مدى العام الماضى، أشعلت الحرب شرارة أزمات الطاقة والغذاء على مستوى العالَـم، واستحثت التضخم المرتفع وسط حالة من تباطؤ النمو العالمى، وزادت من حدة خطر نشوب نزاع مباشر بين روسيا ومنظمة حلف شمال الأطلسى (الناتو) ــ وهو الخطر الذى أكدت عليه واقعة إسقاط روسيا أخيرا لطائرة أمريكية مُـسَـيَّـرة بدون طيار فوق البحر الأسود.
مع ذلك، بعد أكثر من عام من القتال، بات من الواضح أن الصراع اتخذ هيئة حرب استنزاف، حيث يناضل كل من الجانبين لتحقيق تقدم كبير فى ساحة المعركة. السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق العسكرى هو وقف إطلاق النار، لكن التوصل إلى اتفاق قد يستغرق وقتا طويلا. وصلت الحرب الكورية (1950ــ1953)، على سبيل المثال، إلى طريق مسدود لمدة عامين قبل التوصل إلى اتفاق الهدنة.
من الواضح أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يعتقد أن حرب استنزاف مطولة تعمل لصالحه، على النحو الذى يُـمَـكِّـن جيشه من تخريب أوكرانيا واختبار عزيمة الغرب. لإرباك الدفاعات الجوية الأوكرانية، تطلق روسيا عددا أكبر من الصواريخ فى وقت واحد، بما فى ذلك الصواريخ الفرط صوتية من طراز كينجال، التى يستحيل إسقاطها. على الرغم من فيض أنظمة الأسلحة الغربية التى تلقتها، فإن أوكرانيا ليست فى وضع يسمح لها بإحباط الهجمات الجوية الروسية المتزايدة الكثافة.
لكن من الواضح على نحو متزايد أيضا أن روسيا لا تستطيع تحقيق هدفها الاستراتيجى فى أوكرانيا. فربما نجحت فى احتلال ما يقرب من خُمس أراضى أوكرانيا لكنها أوجدت جارة أكثر عدائية وجددت نشاط الناتو، الذى يستعد الآن لقبول فنلندا، وفى الأرجح السويد، فى عضويته. علاوة على ذلك، من المرجح أن تستمر العديد من العقوبات غير المسبوقة التى فرضها الغرب على روسيا إلى ما بعد الحرب وتُـنـزِل بالاقتصاد الروسى أضرارا طويلة الأمد.
من ناحية أخرى، فشلت استراتيجية «الحرب الهجين» التى ينتهجها الرئيس الأمريكى جو بايدن، والتى تسعى إلى إصابة روسيا بالشلل من خلال أساليب القوة الناعمة واستخدام التمويل العالمى كسلاح، فى إسقاط بوتين أو الروبل، كما تعهد بايدن فى المراحل المبكرة من الحرب. صحيح أن نظام العقوبات الذى تقوده الولايات المتحدة نجح فى الحد بشدة من قدرة روسيا على إعادة تموين قواتها لكنه فشل فى إيقاف آلة حرب الكرملين. ورغم أن العقوبات أثرت بشدة على عائداتها من صادرات الطاقة، فقد وجدت روسيا مشترين راغبين لنفطها وغازها الطبيعى فى الأسواق غير الغربية (وإن كان ذلك بسعر مخفض).
إذا لم يحدث انهيار معنوى يدفع الجنود الروس إلى الاستسلام بشكل جماعى ــ وهو احتمال وارد بالنظر إلى تاريخ الجيش الروسى ــ فمن غير المرجح أن تتمكن أوكرانيا من إجبار روسيا على الانسحاب الكامل من الأراضى التى احتلتها فى شرق وجنوب البلاد. ورغم أن الولايات المتحدة تعهدت بدعم وحدة أراضى أوكرانيا، فإن استعادة السيطرة الأوكرانية على هذه المناطق تبدو هدفا بعيد المنال فى أفضل تقدير.
• • •
من ناحية أخرى، تُـعَـد الصين الدولة الوحيدة التى قد تستفيد من صراع ممتد الأجل. وكما جاء فى تقرير حديث صادر عن مؤسسة «روسيا الـحُـرّة» التى تتخذ من واشنطن العاصمة مقرا لها، فإن الصين هى بالفعل «الرابح الأكبر» من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. أصبحت الصين المصرفى الذى تعتمد عليه روسيا، وشريكها التجارى الأكثر أهمية، مستغلة الحرب لإنشاء شبكة أمان للطاقة من خلال تأمين إمدادات أكبر من النفط والغاز الروسيين والتى لا يمكن تعطيلها حتى لو قررت الصين غزو تايوان.
كلما ازدادت الولايات المتحدة انجرافا إلى الحرب الدائرة فى أوكرانيا، تعاظمت احتمالية إقدام الصين على غزو تايوان واقتربت أمريكا من تحقيق كابوسها الجيوسياسى الأسوأ على الإطلاق: المحور الاستراتيجى الصينى الروسى. ربما لا تزال الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى فى العالَـم فى الوقت الحالى، لكن تحدى قوة الصين وروسيا مجتمعتين سيكون مهمة بالغة المشقة.
كشفت الحرب بالفعل عن أوجه القصور العسكرية فى الغرب، مثل استنفاد إمدادات الذخيرة الحرجة، وكفاح أمريكا لزيادة حجم تصنيع الأسلحة، وضَـعف الإجماع بشأن أوكرانيا بين الولايات المتحدة وأوروبا. كل هذا قد يغرى الرئيس الصينى شى جين بينج بالسعى إلى استنفاد الترسانات الغربية بشكل أكبر قبل غزو تايوان، عن طريق شحن الأسلحة بشكل غير مباشر إلى روسيا وإرغام الولايات المتحدة وحكومات أخرى على زيادة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا. الواقع أن شى جين بينج يُعـين بوتين على حربه بدرجة محدودة بالفعل من خلال تزويد روسيا والكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات بالطائرات المسيرة بدون طيار، ومعدات الملاحة، وتكنولوجيا التشويش، وقطع غيار الطائرات المقاتلة، وأشباه الموصلات.
بينما يعتقد بعض المراقبين فى الغرب أن التوصل إلى وقف إطلاق النار فى أوكرانيا عن طريق التفاوض من شأنه أن يشجع الصين على مهاجمة تايوان، فإن شى جين بينج لا يحتاج إلى أن تُـظهِـر له روسيا أن العدوان يؤتى ثماره. ذلك أن نزعة الصين التوسعية التى لا تكلفها شيئا، من بحر الصين الجنوبى إلى منطقة الهيمالايا، هل كل ما يحتاج إليه من إثبات.
كما يشير تقرير مؤسسة الأبحاث والتطوير (RAND) الصادر أخيرا، فإن الحرب الممتدة الأجل فى أوكرانيا لا تصب فى مصلحة أمريكا. فقد يؤدى الصراع المطول إلى زيادة تدفقات الأموال والأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا، مما يزيد من خطر نشوب صراع بين الناتو وروسيا ويعيق قدرة الولايات المتحدة على الاستجابة للتحدى الذى تفرضه الصين. كما اعترف بايدن بالفعل، فإن «التسوية التفاوضية» هى السبيل الوحيد لإنهاء الحرب ــ ومن الأفضل السعى إلى هذه التسوية الآن وليس بعد أشهر أو سنوات من إراقة الدماء والدمار.
النص الأصلي