عندما شاهدت ما فعله الدكتور نبيل العربى، وزير الخارجية، لإصلاح السياسة الخارجية المصرية، فى فترة لا تزيد على شهرين، خطرت لى خواطر كثيرة أحب أن أشرك القارئ معى فيها:
هل هذا الرجل ساحر؟ زارنا فجأة فلمس بعصاه السحرية قضايانا الخارجية، الواحدة بعد الأخرى، فإذا بها تهب معتدلة ومستقيمة، بعد أن كانت تعانى من الانهيار التام الناتج عن الإهمال أو سوء المعاملة.
هل كان كل ما نحتاج إليه حقا، لإصلاح علاقتنا بإيران، أن يأتى رجل واحد رشيد فيقول ثلاث كلمات فقط «إيران ليست عدوا»، بدلا من كل ذلك الكلام الفارغ عن اشتراك إيران فى مؤامرات تهدد الأمن القومى، أو اتهامها بقتل السفير المصرى فى العراق، والاشتباك معها فى مشاجرة سخيفة لأنها أطلقت اسم قاتل السادات على أحد شوارعها، وكأننا كنا فقط نفتعل أسباب العراك لإرضاء أطراف هم فى الحقيقة أعداؤنا الحقيقيون.
هل كان كل ما نحتاجه لبث ثقة الفلسطينيين فينا وإعادة احترامهم لمصر أن نعين كوزير للخارجية رجلا قادرا على وصف ما قمنا به من حصار لغزة وحرمان سكانها من بعض المواد الغذائية والطبية الضرورية، بوصفه الصحيح، ولو لم يزد على كلمة واحدة، إذ قال إن هذا الحصار من جانب مصر عمل «مشين» (Shameful)؟ هل كان يحتاج الأمر حقا إلى ساحر لكى يدرك الجانب اللاأخلاقى فى معاملتنا لأهل غزة، بينما قام العالم كله لنصرتهم، وجاء الرجال والنساء من كل مكان للتعبير عن رفضهم للسياسة الإسرائيلية، إلى حد أن ضحت شابة أمريكية بنفسها وهى تتصدى لدبابة إسرائيلية؟
هل كان الأمر يحتاج إلى ساحر لجمع الطرفين الفلسطينيين المتشاجرين، للاجتماع والتصالح تمهيدا لمواجهة عدوهما المشترك فى جبهة واحدة؟ فعل نبيل العربى هذا أيضا، دون أن تصدر منه عبارة واحدة ينسب بها الفضل فى ذلك لنفسه ــ ودون أن يملأ وسائل الإعلام زهوا وخيلاء وجعجعة.
هل يمكن هنا أن يكون لمصر وزير خارجية لا يهمه شكل صورته أمام الناس مثلما تهمه المصلحة المصرية والعربية والقضية الأخلاقية؟
فى الوقت نفسه، الذى كان نبيل العربى يقوم فيه بهذا وذاك، سافر إلى وسط أفريقيا فى محاولة لحل مشكلة نصيب مصر من مياه النيل، وقدم دعم وزارة الخارجية للوفد الشعبى المصرى لنفس الغرض، وهى خطوة غير مألوفة، فيما أعلم، فى تاريخ الدبلوماسية المصرية. كما لا أذكر أننى رأيت صورة لوزير خارجية مصر وهو جالس مع بابا الأقباط كما رأيت صورة نبيل العربى، فى محاولة منه لاستخدام نفوذ الكنيسة القبطية لدى دولة الحبشة فى حل مشكلة المياه لصالح مصر، بعد رجوعه من زيارة روما واجتماعه ببابا الفاتيكان لنفس الهدف.
ليس فى الأمر أى سحر بطبيعة الحال، فالمسألة أبسط من هذا بكثير، وأوضح لكل ذى عينين. ولأن المسألة أبسط وأوضح، كسب نبيل العربى تقدير وحب الشعب فى مصر وفى العالم العربى فى لمح البصر، كما يظهر من تعليقات الناس اليومية فى مصر على تصرفاته، وما نشرته الصحف فى مصر والعالم العربى من مقالات، وكما يظهر مما سمعت من أصدقائى العرب، وكما بدا من طريقة استقباله حتى من الوفود الرسمية فى اجتماعات الجامعة العربية، كان الإجماع على تقدير نبيل العربى ساحقا مثلما كان الإجماع على رفض ما كان يفعله سلفه وما لم يفعله، وهذا يؤكد مرة أخرى أن الحق بيّن والباطل بيّن، وأن الذى يمنع التزام الحق وتجنب الباطل ليس الغموض أو عدم الفهم، بل شىء مختلف تماما.
●●●
ذكَّرتنى تصرفات نبيل العربى برجل آخر كان فى حكم أستاذى، وإن لم يدرِّس لى أى مقرر من مقررات كلية الحقوق عندما كنت طالبا بها، وهو الدكتور حلمى مراد. كان أستاذا للمالية العامة ويتمتع باحترام عام لكفاءته ونزاهته ووطنيته، كما كان أيضا ناشطا سياسيا فى الحزب الاشتراكى الذى كونه أحمد حسين فى الأربعينيات. كنت ألتقى بالدكتور حلمى مراد بين الحين والآخر فى الندوات والمؤتمرات الاقتصادية، وكنا جميعا نقرأ بإعجاب شديد مقالاته الرائعة فى جريدة «الشعب» فى السبعينيات والثمانينيات.
التقيت به مرة فى منتصف الثمانينيات وكان الإعداد يجرى على قدم وساق لمؤتمر كبير، صحبته حملة دعاية واسعة تحت شعار «إصلاح التعليم فى مصر». كان رئيس المؤتمر الدكتور فتحى سرور، الذى كان وقتها وزيرا للتعليم، وقبل أن يصبح (أو يُعيّن) رئيسا لمجلس الشعب، بعد أن أثبت كفاءة عالية فى إفساد التعليم فى مصر.
قال لى الدكتور حلمى مراد معلقا على عقد هذا المؤتمر وسط ضجة إعلامية كبيرة، مع ابتسامة صغيرة، «إنهم لم يكونوا بحاجة إلى عقد أى مؤتمر لإصلاح التعليم، إذ إنهم لو فتحوا أى درج فى أى مكتب من مكاتب وزارة التعليم سيجدون مذكرات ومقترحات يكفى تنفيذها لإصلاح كل مفاسد التعليم فى مصر».
لم يكن الأمر إذن بحاجة إلى مؤتمرات، فالحق بيّن هنا أيضا، والباطل بيّن، فى إصلاح التعليم كما فى السياسة الخارجية. بل كنا فى حاجة إلى شىء آخر. فما هو يا ترى هذا الشىء الآخر الذى يؤدى افتقارنا إليه إلى ندرة متبعى الحق فى حياتنا السياسية، وقلة حظنا من وزراء من نوع نبيل العربى أو حلمى مراد، على مر تاريخنا الطويل؟
لا شك أن الإجابة لها علاقة قوية بالديمقراطية والديكتاتورية. فالوزراء الوطنيون يختارهم الشعب الذى تهمه بالضرورة مصلحة الوطن. والديكتاتور قد تهمه مصلحة الوطن أحيانا، فيأتى بوزراء وطنيين، وقد لا تهمه فيأتى بمن يحققون له أغراضه هو أو بمن ينهمكون فى تحقيق مصالحهم الشخصية. هكذا كان حظ مصر ضئيلا من الوزراء الوطنيين لأن حظها كان ضئيلا من الحكم الديمقراطى. فطوال القرنين الماضيين منذ بداية عصر محمد على وحتى نهاية عصر مبارك، كان عدد الوزراء (والمستشارين) الوطنيين ضئيلا ومقصورا على فترات قصيرة للغاية. ولكن يجب أن نلاحظ أن حصول مصر على وزراء وطنيين لم يتطابق بالضبط مع تمتعها بحكم ديمقراطى، فقد عرفت مصر كثيرين من الوزراء (والمستشارين) الوطنيين فى عهد محمد على وعهد عبدالناصر (وقد كان كل منهما ديكتاتورا بلا جدال)، كما عرفت كثيرين أيضا من الوزراء والمستشارين غير الوطنيين حتى فى ظل عهود أكثر ديمقراطية بكثير، كالفترة التى امتدت بين صدور دستور 1923 وقيام ثورة 1952. لابد إذن أن نضيف إلى وجود الديمقراطية أو غيابها، عاملا آخر هو مدى تمتع مصر باستقلال حقيقى فى الإرادة أو خضوعها التام لإرادة الأجنبى.
فالأجنبى قد يهمه الإصلاح أحيانا ولكنه يعمل على الإفساد فى معظم الأحوال، ومن ثم يختار من الوزراء فى معظم الأحوال (أو يشجع على اختيار) من يتصرف ضد المصلحة الوطنية أو من يمتنع عن فعل ما يحقق هذه المصلحة.
والأمران متلازمان ولكنهما ليسا متطابقين تمام التطابق. فالأجنبى لا يجد له مصلحة (فى معظم الأحوال) فى أن نتمتع بنظام ديمقراطى، ويجد الديكتاتور عادة أكثر فائدة له وأسهل قيادا.
فإذا سمح الأجنبى لنا بالديمقراطية، فهى ديمقراطية من نوع خاص ومقيدة بشروط، كالذى كان يخضع له ملك مصر مثلا، فى أعقاب صدور دستور 1923 من ضرورة موافقة السفارة البريطانية فى القاهرة (ومن ثم وزارة الخارجية فى لندن) على من يختار رئيسا للوزراء لمصر.
من الشيق أن نلاحظ، مع ذلك، أنه تمر بمصر من حين لآخر، فترات يشعر فيها الديكتاتور (أو حتى الأجنبى) بأنه فى مأزق، ويصعب عليه فيه أن يتجاهل تماما ما فيه المصلحة الوطنية، وألا ينصاع، ولو مؤقتا، لرغبات الناس، فيلجأ مؤقتا إلى تعيين بعض الوزراء (وربما أيضا رئيس للوزراء) ممن يتمتعون بشعبية مؤكدة لنزاهتهم ووطنيتهم، ريثما تمر الأزمة وتهدأ الأمور.
حدث شىء مثل هذا فى 4 فبراير 1942، فى ذلك الحادث الشهير، حين أصرت الحكومة البريطانية على أن يأتى الملك فاروق بمصطفى النحاس رئيسا للوزراء، وهو أكثر الزعماء شعبية فى ذلك الوقت، رغم العداوة الشديدة بين الملك والنحاس، إذ كان النحاس يصر على الوقوف ضد الملك كلما أراد الملك أن يخرق القانون تحقيقا لمآربه الشخصية، كانت الحكومة البريطانية مدفوعة لذلك (رغم كراهيتها بدورها للنحاس)، وتفضيلها لأحزاب (الأقلية) بما كانت تمر به من أزمة حرجة للغاية فى حربها ضد الألمان، وكانت تريد أن تؤمن الشارع المصرى تماما وتمنع أى اضطرابات أو مظاهرات فى مصر يمكن أن تعرقل خططها العسكرية فى منع الألمان من دخول مصر.
كانت تهدئة الشارع المصرى غير ممكنة إلا إذا تولى مصطفى النحاس الحكم، وهكذا جاء الإنجليز بالدبابات أمام قصر عابدين لإجبار الملك على قبول النحاس، فرضخ الملك، إلى آخر ما نعرفه من أحداث ذلك اليوم الشهير. ولكن سرعان ما فقد النحاس منصبه وتم عزله بمجرد أن استتب الأمر للإنجليز وزال عنهم الخطر.
اضطر الملك إلى قبول النحاس رئيسا للوزراء مرة أخرى فى 1950، عندما مرّ بوقت عصيب (هو فى هذه المرة وليس الإنجليز) نتيجة التهاب الحركة الوطنية فى أعقاب حرب فلسطين فى 1948، واتهامه بالضلوع فى شراء أسلحة فاسدة للجيش المصرى، فجاء النحاس ومعه وزراء رائعون منهم وزير خارجية فذ هو محمد صلاح الدين، ووزير فذ آخر للتعليم، هو طه حسين، فإذا بالحكومة بين يوم وليلة تلغى المعاهدة التى كانت قد وقعتها مع الإنجليز فى 1936، والتى كرهها الناس كراهية شديدة، ويستقبل الناس خبر إلغاء مصر للمعاهدة بإرادتها المنفردة، استقبالا رائعا، ويقف أعضاء البرلمان مشدوهين لسماعهم الخبر وهم يهتفون بحياة مصر والنحاس.
ثم لم تلبث حكومة النحاس أن سمحت للمتطوعين المصريين بالذهاب لمقاتلة الإنجليز الرابضين على قناة السويس، وأقامت لهم معسكرات للتدريب وأمدتهم بالسلاح. ثم أصدرت الحكومة قانونا بمجانية التعليم فى جميع المراحل السابقة على المرحلة الجامعية، وقانونا آخر لحماية العمال من استغلال أرباب الأعمال (قانون العمل الفردى)..الخ.
لا عجب أن الأمر لم يستمر أكثر من سنة ونصف السنة، إذ رُتبت مؤامر للإطاحة بحكومة النحاس، لصالح الملك والإنجليز، فوقع حريق القاهرة الشهير فى يناير 1952، وأقال الملك النحاس بحجة فشله فى تحقيق الأمن.
●●●
بعد ستة عشر عاما من حريق القاهرة، حدث حادث مماثل، إذ اضطر نظام عبدالناصر إلى محاولة استرضاء الشعب فأتى بوزراء محبوبين ومشهورين بالنزاهة والوطنية، ريثما تتجلى الأزمة فيطاح بهم ويستغنى عن خدماتهم. ففى 1968، بلغ السخط الشعبى أقصاه بسبب الهزيمة العسكرية فى 1967، وخرج الشباب إلى الشوارع يطالبون بالعقاب الرادع للمسئولين عن الهزيمة، وشعر جمال عبدالناصر بضرورة التهدئة فأتى بحكومة جديدة كان من بين أعضائها وزيران أو ثلاثة من نوع جديد لم يعتد الناس أن يروا مثلهم منذ فترة طويلة. كان من بين هؤلاء ذلك الرجل الرائع الذى ذكرته حالا، وهو الدكتور حلمى مراد، إذ عُيّن وزيرا للتعليم، ولم يكن إصلاح التعليم يحتاج من حلمى مراد إلا لفترة وجيزة، ولكن للأسف غضب عليه عبدالناصر لأمر لا علاقة له بالتعليم ولكن له علاقة بشجاعته.
وتمسّكه برأيه، إذ عبّر فى مجلس الوزراء عن تمسّكه باستقلال القضاء، ضد إجراء كان يؤيده عبدالناصر ويؤدى إلى استبعاد بعض القضاة، وانتهى الأمر بعزل حلمى مراد، بمجرد أن هدأ الشارع المصرى واطمأن عبدالناصر إلى سيطرته على الأمور.
فعل أنور السادات شيئا مماثلا فى السنوات الأولى من حكمه فى أوائل السبعينيات، فى أعقاب وفاة حاكم قوى ومحبوب، وانتفاضة الشباب المصرى فى 1972 احتجاجا على تلكع الحكومة فى بذل الجهود اللازمة لاسترداد سيناء المحتلة، وقبل وقوع نظام السادات تماما فى براثن السيطرة الأمريكية، فإذا بالسادات يأتى برجل عظيم كرئيس للوزراء، هو الدكتور عزيز صدقى، وبعض الوزراء المعروفين بالنزاهة والوطنية والكفاءة، كإسماعيل صبرى عبدالله للتخطيط، وفؤاد مرسى للتموين، ومصطفى الجبلى للزراعة. وسرعان ما نشط الثلاثة فى إصلاح الأمور التى تولوها، فوضع إسماعيل صبرى عبدالله خطة طموحا للتصنيع، ووضع فؤاد مرسى حدا لجشع التجار، ووضع مصطفى الجبلى خطة رائعة تهدف لتحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح والمحاصيل الزراعية الرئيسية قبل نهاية القرن. ولكن لم يستمر الأمر طويلا كالعادة، إذ سرعان ما استغنى السادات عن هؤلاء وأمثالهم بمجرد أن استتب له الأمر، واستعاض عنهم بمن يقبل الانصياع لإرادة المضاربين والمحتكرين والمقاولين وتجار العملة، فضلا عن الانصياع للإرادة الأمريكية.
●●●
أرجو ألا يظهر أن نقل نبيل العربى من وزارة الخارجية إلى أمانة الجامعة العربية، هو من نوع الأحداث السابقة التى ذكرتها، وللمرء الحق فى أن يتساءل بحزن: «ألا يستحق المصريون وزيرا رائعا للخارجية لأكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر؟».