تواجه مصر تحديين كبيرين فى محيطها الإقليمى، فمن ناحية الحدود الغربية، هناك حرب أهلية ضروس بين الأشقاء الليبيين فى ظل تدخل عسكرى تركى تتعدى أهدافه تحقيق المكاسب الاقتصادية إلى محاولة السيطرة على الدول العربية من ناحية، ومحاصرة مصر استراتيجيا من ناحية أخرى، تحقيقا لرغبة أردوغان المعلنة فى إعادة إحياء نظام الخلافة الإسلامية، وهو الوهم الذى يكسب به بعض التيارات الإسلامية فى العالم العربى، ناسين أو متناسين، أن مشروعا مشابها حاول أن يُحييه عبدالحميد الثانى منذ أكثر من 150 عاما وانتهى بالفشل وبالانقلاب على عبدالحميد نفسه، وهو مصير يظل غير مستبعد للرئيس التركى الحالى رغم قبضته الأمنية.
ومن ناحية الجنوب، تواجه مصر أزمة عنيفة متعلقة بنهر النيل، وذلك بعد إصرار إثيوبيا على المضى قدما فى ملء السد، متهربة من التزاماتها وفقا لإعلان المبادئ الذى تم توقيعه منذ خمسة أعوام مع مصر والسودان، ومتملصة من جولة المفاوضات التى جرت فى واشنطن مع مطلع العام الحالى وهو ما يثبت سوء النية، وتعمد الإضرار بالمصالح المشتركة لدول حوض النيل.
***
لا شك أن هذه التحديات تأتى فى وقت تنشغل فيه قوى النظام الدولى بأزمات متعددة سواء بسبب انتشار وباء كورونا أو بسبب الاضطرابات الداخلية والتحديات الاقتصادية فى بعض الدول الغربية، مما يجعل التعويل على النظام الدولى وترتيباته حلا غير مضمون رغم أهمية اللجوء إليه.
فى الأزمة الليبية ومنذ الإطاحة بنظام القذافى حاولت مصر اللجوء إلى الكثير من الحلول، منها الحلول الأمنية لتأمين الحدود الغربية بعد انتشار الجماعات المسلحة الإرهابية فى ليبيا وتحديدا فى الشرق وهو ما أدى إلى تسريب الأسلحة والمعدات العسكرية والأفراد الذين ارتكبوا بعض الأعمال الإرهابية فى مصر، إلى الحلول السياسية مثل التحالف مع الجنرال حفتر وقواته المسلحة، أو محاولات عدة جرت للصلح بين القبائل والأطراف المتنازعة، أو المحاولات الدبلوماسية عبر طرح «إعلان القاهرة» لفتح الحوار بين المتحاربين الليبيين فى الشرق والغرب، وعندما لم تؤتِ معظم هذه المحاولات بما هو مرجو منها وفى ظل دفع تركى لحكومة السراج برفض الحلول الدبلوماسية والتصعيد العسكرى، لوحت مصر مؤخرا بإمكانية اللجوء إلى الحل العسكرى المباشر وهو الاحتمال الذى مازال قائما حتى وقت كتابة هذه السطور.
أما بخصوص سد النهضة، فمازالت مصر متمسكة بكل الحلول السلمية الدبلوماسية سواء فى الالتزام بالمفاوضات، وأبدت حسن النية بخصوص مصالح إثيوبيا والسودان، أو باللجوء إلى الوساطات الدبلوماسية وتحديدا الوساطة الأمريكية، انتهاء باللجوء إلى مجلس الأمن فى محاولة إيقاف التعنت الإثيوبى، ورغم أنه حتى اللحظة لم تصدر من الدوائر الرسمية المصرية التلويح بالخيار العسكرى، لكنه يبقى حلا غير مستبعد حال فشلت كل هذه الجهود السلمية فى وقف تعنت الإثيوبيين.
***
الحقيقة أن التحديات القادمة لمصر صعبة، ذلك أن القوى التقليدية فى المنطقة شهدت بعض التراجع لصالح تصاعد قوى إقليمية جديدة فى إفريقيا والشرق الأوسط، وفى ظل عالم مليء بالصراعات والأوبئة وقضايا المهاجرين واللاجئين، تصبح مهمة تحقيق الأمن القومى أصعب، ذلك أنها أصبحت تعتمد بالأساس على المجهود الفردى للدول، ومن هنا فالتفكير فى استراتيجيات الأمن القومى يجب أن تشمل حلولا مجتمعية وسياسية وثقافية ودعائية، بالإضافة إلى الحلول الأمنية، فكل هذه الحلول لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، بل لابد من استراتيجية متكاملة للتعامل مع أى أزمة دائمة أو طارئة للأمن القومى المصرى، وهنا يمكن اقتراح خمس استراتيجيات للتعامل ليس فقط مع الأزمتين الحاليتين، بل وأيضا للتعامل مع ما قد يستجد من أزمات مستقبلية فى المحيط الإقليمى لمصر، ويمكن سرد هذه الاستراتيجيات بشكل موجز على النحو التالى:
أولا: تماسك الجبهة الداخلية، ذلك أن أحد أهم استراتيجيات الخصوم الإقليميين هى اللعب على وتر الانقسامات الداخلية، للدرجة التى أصبح بعض المصريين يتحدثون وكأنهم أتراك، أو محايدون، وكما أن اللوم يجب أن يوجه لهم، لكن لاشك أن بعض الانقسامات السياسية والاستقطابات فى الداخل، تلعب دورا أيضا فى عدم تماسك الجبهة الداخلية، وحتى تتحقق الأخيرة فمطلوب مصالحة مجتمعية مصرية وحوار سياسيّ يجمع الفرقاء من الأحزاب والقوى السياسية، ومبادرات سياسية لتحقيق بعض الإصلاح السياسى، وإعادة استراتيجية دمج الشباب فى النظام السياسى واستيعابه واحتوائه، قطعا لن تشمل هذه الاستراتيجية من تورط فى العنف والإرهاب، ولكن دون ذلك يجب أن تشمل المعارض والمؤيد المسيس وغير المسيس، تماسك الجبهة الداخلية المصرية هو أحد أهم الأسلحة لمواجهة التحديات القادمة.
ثانيا: إعادة تقييم التحالفات الإقليمية، ذلك أنه من الواضح للجميع أن بعض الحلفاء الإقليميين، قد لا يساندون الموقف المصرى بالشكل الكافى، بل وبعضهم يبدو وكأنه متحالف مع الخصوم، عمل إعادة تقييم دورى لمواقف الحلفاء والأصدقاء أمر ضرورى لأنه لم يعد من المقبول أن يقف بعض الحلفاء موقف المتفرج أو أن يساند خصوم مصر فى معارك إقليمية حيوية، فعلى سبيل المثال، فإن الموقف الإثيوبى وسياسة فرض الأمر الواقع وطريقة التعنت وعدم إعارة الجهود الدبلوماسية أى اهتمام والتملص من الالتزامات الدولية لا يمكن اعتبارها بعيدة عن سياسة إسرائيلية مماثلة فى التعامل مع الشأن الفلسطينى، ولا يخفى على أحد أن هناك بعض الاحتمالات أن الجانب الإسرائيلى ربما يساند إثيوبيا بل وقد يشجعها على التمرد أمام المصريين، وهو أمر لابد من التحدث مع إسرائيل صراحة بخصوصه وإعادة التقييم للعلاقة معها لو لم تستجب!
ثالثا: تكثيف الحوار مع جميع القوى السياسية الدولية والمنظمات الدولية والإقليمية، فعلى الرغم من أن هذه المنظمات قد تبدو بلا جدوى، ولكن تسجيل المواقف الدبلوماسية لدى كل الأطراف وتكثيف حوارات رأس الدولة المصرية مع هذه القوى والمنظمات أمر هام، ولاسيما مع جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى، والاتحاد الأوروبى والصين والولايات المتحدة، هذه الاتصالات المباشرة وبشكل متكرر ستحسن من الموقف المصرى فى التفاوض والضغط على الخصوم للالتزام بالتعهدات الدولية وتحقيق المصالح المشتركة، فرغم انشغال الجميع بظروف الوباء وبالأزمات الداخلية، لكن يظل أى تهديد للأمن القومى المصرى هو تهديد مباشر لمصالح هذه الدول فى المنطقة وتهديد لاستقرارها أيضا وهى رسالة لابد للجانب المصرى أن يكثفها خلال الفترة الحالية.
رابعا: تكثيف الحملات الدعائية المباشرة لشعوب الخصوم، ذلك أنه يجب أن يكون الخطاب الإعلامى المصرى موجها ليس فقط للحكومات ولكن أيضا للشعوب، لابد من إفهام الأشقاء فى ليبيا وفى إثيوبيا أن أى تلويح مصرى بحلول عقابية أو أمنية لن يكون إلا اضطرارا وأنه ليس اختصاما لهذه الشعوب، ومن هنا لابد من شرح الموقف المصرى بوضوح عن طريق المكاتب الإعلامية المصرية بالدول المعنية، ذلك أنه ليس كافيا أن نخاطب جبهتنا الداخلية فقط، ولا مقبولا أن يظل دور الهيئة العامة للاستعلامات دفاعيا فقط، هذه الرسائل الإعلامية مهمة وتستطيع حال توجيهها بحرفية أن تمتص غضب الشعوب أو على الأقل تقلل من الحالة العدائية التى يغذيها الخصوم لديهم بالباطل.
خامسا: تكثيف التعاون مع شعوب الدول الإفريقية أصبح أيضا حاجة ملحة ولا غنى عنها، ورغم أن التعاون المصرى الإفريقى قائم فى بعض المجالات ويتم تنفيذه بشكل مباشر من خلال بعض الوزارات، لكن لابد من أن يدار هذا التعاون بشكل استراتيجى مركزى، ومن هنا، فإن الخطوة التى تم اتخاذها عام 2013 بدمج عدة صناديق للتعاون، منها الصندوق المصرى للتعاون مع إفريقيا وإنشاء «الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية» تظل خطوة هامة، لكن لابد من إعادة التركيز على القارة الإفريقية بشكل مكثف من خلال إنشاء الوكالة المصرية للتعاون الإفريقى، مركزة على 6 مجالات استراتيجية وهى المياه، والإعلام، والتعليم، والتكنولوجيا والزراعة والصناعة، مع تقديم دورات تدريبية تتراوح بين ثلاث وستة أشهر أو منح تعليمية للماجستير والدكتوراه فى بعض الجامعات المصرية وإقامة كاملة لبعض الخبراء أو القيادات الصغرى والمتوسطة أو الطلاب المرموقين والموظفين الحكوميين فى العديد من الدول الإفريقية، مع إقامة مقر مركزى لهذه الوكالة المقترحة فى القاهرة، ومقار فرعية متوافر بها إقامة فندقية فى دلتا مصر، والإسكندرية، وأسوان، والبحر الأحمر، على أن تعمل الوكالة تحت إشراف وزارة الخارجية ولكن بميزانية وهيكل إدارى مستقل عنها، ذلك أن تلك الحلول لجأت إليها العديد من الدول حينما واجهت أزمات استراتيجية فى محيطها (منها اليابان مثلا)، وقد نجحت هذه الحلول بشكل كبير فى التخفيف من حدة الأزمات وفى بناء قاعدة للتعاون الاستراتيجى مع الخبراء والقيادات المتوسطة فى الدول المعنية.
***
الأمن القومى المصرى فى خطر، ولكن مصر قادرة على مواجهته من خلال استراتيجية متكاملة نطمح إليها.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر