التجارب التى تسلحت فيها قوى سياسية أو مليشيات أو فرق خاصة، أيا كانت الأسباب والمبررات، نتج عنها عواقب وخيمة بالنسبة للدولة ذاتها، وللنظام السياسى الذى أفرزها، وتسامح معها، واستخدمها لتحقيق أغراض لم تستطع أو ترضى الجيوش النظامية القيام بها.
الشركة المسلحة الخاصة الروسية المعروفة باسم «فاجنر»، خير مثال على ذلك، فقد قادت منذ أيام محاولة تمرد فى وجه الكرملين، وإن كان قد انتهى ظاهريا سريعا، لكنه شكل مؤشرا خطيرا على ضعف الدولة الروسية من الداخل، ومن غير المحدد تداعياته مستقبلا. رئيس هذه الشركة العسكرية الخاصة هو يفجينى بريجوجين. بدأ حياته العامة متهما فى قضية سطو عام 1981، وبعد أن قضى فى السجن اثنى عشر عاما، اتجه إلى تأسيس مطعم خاص فى سان بطرسبرج فى تسعينيات القرن العشرين، ومن خلال عمله تعرف على الرئيس فلاديمير بوتين الذى كان يشغل وقتئذ نائب عمدة المدينة، وحصل بسبب هذه العلاقة على عقود حكومية، وتمتع بلقب «شيف بوتين»، ودخل بعد ذلك حقل الانترنت، وتشير مصادر غربية إلى إنه كان طرفا فى الاتهامات التى ذُكرت بشأن تدخل روسيا فى الانتخابات الرئاسية الامريكية عام 2016 التى حملت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وظهرت «فاجنر» بقوة عقب نمو الحركات الانفصالية فى إقليم دونباس، وانفصال شبه جزيرة القرم عام 2014، وانتقلت منها إلى المشاركة فى الحرب فى سوريا، وجمعها علاقات مع اللواء خليفة حفتر فى ليبيا، وقوات الدعم السريع فى السودان، وتعمل فى مالى وجمهورية أفريقيا الوسطى. وتتهم مصادر أمريكية «فاجنر» بأنها تستفيد من عملها المسلح فى الحصول على الذهب وموارد أخرى فى أفريقيا، وتستخدمها فى الانفاق على العمليات العسكرية الروسية فى أوكرانيا.
خبرة السلاح الخاص المٌسيس ليست بعيدة عن عالمنا العربى حيث تواجه المليشيات سلطة الدولة، وتفرض سطوتها فى حالات كثيرة، وتوجه القرار السياسى، وتستخدم العنف ضد مواطنيها. يمثل السودان نموذجا واضحا فى المواجهة المسلحة الممتدة لأسابيع بين قوات الدعم السريع والجيش، وهناك تشابه بين تجربتى «فاجنر» و«الدعم السريع» فى وجوه كثيرة، وتقارب بينهما فى مصالح اقتصادية وعسكرية وسياسية. وقد أدت الحرب الدائرة فى السودان إلى أزمات صحية وغذائية كبرى، فضلا عن تدمير البنية الأساسية، وتهديد وحدة وسلامة البلاد، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
وتبدو تشكيلات مسلحة فى العديد من الدول العربية بخلاف الجيوش النظامية، هناك الحوثى فى اليمن، والحشد الشعبى فى العراق، وحزب الله فى لبنان، والعديد من المليشيات فى ليبيا وسوريا، وتختلف توجهاتها فى أحيان كثيرة عن توجهات النخب الحاكمة، بل تعتبر نفسها هى عصب الدولة ذاتها، ولها مصالحها الخاصة أو الذاتية التى تسعى لتحقيقها، بما فى ذلك التواصل مع جهات خارجية ــ إقليمية ودولية ــ بالتوازى مع سلطة الدولة.
هذه واحدة من المعضلات الكبرى فى المنطقة العربية، وقد نشأت نتيجة الحروب الأهلية، وتفسخ المؤسسات العامة، وبروز نزعات عرقية ومذهبية، وتراجع سلطة الدولة إلى حد أن أصبحت هذه التشكيلات المسلحة تمثل تحديا، وخطرا على الدولة ذاتها. بالتأكيد لكل دولة عربية ظروفها، وخبرتها المختلفة، ولكن تظل هناك خطوط عامة ينبغى التأكيد عليها أبرزها: أن حل هذه المعضلة يكمن فى أن تكون لدينا دولة وطنية ديمقراطية تنموية، تسعى إلى تحقيق تنمية متوازنة على جميع الأصعدة، لا تهمش أحدا، وتحتضن مواطنيها جميعا فى إطار رابطة المواطنة بصرف النظر عن الاختلاف فى اللون أو المعتقد أو العرق، أو ما شابه، وذلك إلى جانب مؤسسات دولة متماسكة، وجيوش قادرة على الدفاع عن حدود الدولة، وقوات أمن نظامية تطبق القانون وقواعد العدالة بعيدا عن السلاح الخاص الذى له توجهاته ومصالحه الخاصة.