قامُوس السَّاخرين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 28 سبتمبر 2024 2:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس السَّاخرين

نشر فى : الجمعة 27 سبتمبر 2024 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 27 سبتمبر 2024 - 10:10 م


راحَت المَجموعةُ تتبادل المزاحَ ويَسخَر أفرادها مما حَملت الشاشةُ إليهم مِن إعلانات؛ تحثُّ مُشاهديها على التبرُّع واللحاق بالثَّواب؛ مرَّةً لإدخال المياه لمنطقة مُحتاجة وأخرى لمنشآتٍ طبيَّة نضَبت مواردُها وثالثةً لدارِ أيتام. لم تكُن السُّخرية إلا تكليلًا لتلك الإعلاناتِ المُوازية التى حَملت إليهم بشائرَ الوَفرة.
• • •
تقولُ مَعاجمُ اللغةِ العربيةِ أن السَّاخرَ هو الشَّخصُ الذى يُمارِس أفعالَ التهكُّم والاستهزاء؛ فإن سَخِر المرءُ من شَىء؛ بكسرِ الخاء، فقد هزءَ به وتهكَّم عليه، المَصدر سُخريةٌ والواقع عليه الفِعل هو المَسخور به. قد تتطوَّر السُّخرية وتصلُ حدَّ التحقيرِ والازدراء ما تمادى صاحبُها وأسقط الحواجزَ والقيودَ، وانتقل بها من استخدام عابرٍ إلى عادةٍ؛ فتحوَّلت لديه إلى أداةٍ لا يستغنى عنها؛ جادًا كان أو هازلًا.
• • •
فاضَت بعضُ أشعارِ أحمد فؤاد نجم بسُخرية لاذعة، يذكر مُحبوه «فاليرى جيسكار ديستان» و«شرَّفت يا نيكسون بابا»، يذكرون أيضًا «كلب الست» التى لم يتوان فيها عن التعريض بأم كلثوم: «هيَّص يا كلب السِّت لك مقامك فى البوليس.. بكرة تتألف وزارة للكلاب ياخدوك رئيس»، إضافة للكلمات الحارقة التى كتبها منتقدًا عهد السادات: «عن موضوع الفول واللحمة». نبعَت سُخريةُ نَجم من مَوقِف سياسىٍّ واضح؛ لم يُداهن فيه ذات يوم صاحبَ سُلطةٍ، ولا طوَّع قلمَه فى مَدائح كانت أحرى بجلبِ الرضاءِ والأمان؛ بل والغِنى والثروة.
• • •
السُّخريةُ فى أفلام نجيب الريحانى سوداءٌ عَميقة، لا تقفُ عند حدّ إلقاء قفشة تدفع المشاهدين للضَحِك؛ إنما تنفذ للأعماقِ وتَمسُّ ما توارى وتصنع حالًا من الأسى المَصحوب ببسمات؛ يَصعبُ الهُروبُ منها. فى فيلم غزل البنات مَشهد عبقرىٌّ، يلتقى فيه المُدرّس الفقير بما له من هيبة مُفترَضة، بالباشا صاحبِ القَّصر بكل ما يحملُ من جاه وهيلمان. حوار مُمتع مُثير للتأمل، ومفارقاتٌ جمَّة نابعة من اختلافِ المراتبِ والدَّرجات. سُخريةُ الريحانى المُتفردة شكلًا ومَضمونًا انتهت بوفاته، ولا أظن أن ثمَّة من خلفَه على الدَّرب ذاته.
• • •
بعض المرات تجىء السخرية فى إطار المزاح بين الأصدقاء وفى مرات أخرى تكون موجهة لمصدر قهر حصين تتعذر مواجهته فى ميادين أكثر جدية، ولا يكون الحلُّ حينها سوى بالتنكيت وابتداع المزحاتِ الثقيلة. كثيرُ الناس لا يملكون إزاءَ ما يكتنفُ حيواتِهم اليومَ من مَصائب متتالية؛ إلا أن يَسخروا وأن يُفرجوا عن أوجاعِهم من خلالِ النِكات الحارِقة. تاريخيًا؛ برع المصريون فى التعامُل مع البلايا عبر وابلٍ من السُّخرية لا يتوقف إلا بوقوع حدثٍ جديد؛ يستأثر وقتيًا بالانتباه ويَجذب اهتمامَ السَّاخرين نحوه.
• • •
اعتدت قراءةَ «نُصّ كلمَة» للسَّاخر العظيم أحمد رجب، ثم تابعت على المِنوال ذاته وبالجَّدارة الوافرة جلال عامر. كلاهما امتلكَ القدرةَ الفائقة على التكثيفِ والتعبيرِ الدقيق عن المُراد فى أقصرِ العِبارات وأخفَّها ظلًا. تأتى الكلمةُ طلقةً والجُّملةُ القَّصيرةُ قذيفةً والعبارةُ ــ إن طال الكلام ــ قصفًا مدفعيًا ثقيلًا؛ يُمتِع المتلقى ويُشفى غليله».
• • •
ينهى المَوروثُ الدينىُّ عن السُّخرية التى تأتى على خلفيةِ القَّدحِ الخَالص؛ لا تحركها سوى مُباهاةٌ حمقاءٌ بالنَّفسِ وتحقيرٌ على غيرِ أساسٍ مِن شأنِ الآخرين. مِن زاوية أخرى؛ تُصنِف العلومُ الاجتماعية السُّخريةَ كفعلٍ عدوانىٍّ سلبىٍ، يُمارسه غير القادر على حلّ أزماتِه مباشرة وبصورة فعَّالة، والحقُّ أن السُّخرية تغدو بعضَ الأوقات عملًا غير مُحبَّذ؛ فالسَّاخر يضع غضبَه ومَظلمته وإحباطَه فيما لن يُبدل من وَضعِه السَّيئ شيئًا. ينفثُ طاقته ويُبددها ويبُث همومَه فى صُنع الضَّحكات، فيما تتكالب عليه الرزايا وتُثقِل كاهلَه وتُعجِزه أكثر فأكثر عن التعامُل معها بالكفاءة الواجبَة.
* • •
تشير «المَسخرة» إلى كلّ ما مِن شأنِه استجلاب السُّخرية. المَسخَرة مَوقفٌ أو هيئةٌ أو مَسلكٌ فى غير مَحله، والمفردة مَصدر من الفِعل «مَسخَر» الذى نستخدِمه فى أحاديثنا العادية، وكثيرًا ما يُقال إن فلانًا مَسخَر علانًا؛ والقصد أنه جعله مَوضِع استهزاءٍ بين الآخرين. فى فيلم «عريس من جهة أمنية» دفع البطل عادل إمام بعيد ميلاد «بِسّ»؛ كى يستميل السائحة المُصغِية لمَروياته، مؤكدًا أنه إله المَسخَرة عند المصريين القدماء، والمزحَة لها أصل فبِسّ هو إله المَرح والسُّرور فى عصور عتيقة، يُنسب للحضارة اليونانية وربما المِصرية، أما الفيلم فمن إخراج على إدريس وقُدِّم للجماهير عام ألفين وأربعة، ورغم أنه مأخوذ عن أصل أجنبىٍّ؛ إلا أنه صِيغ ببراعةٍ وخِفَّة لافتتين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات