الاقتصاد بين التفاؤل والتشاؤم... والتوافق المطلوب - زياد بهاء الدين - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 3:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاقتصاد بين التفاؤل والتشاؤم... والتوافق المطلوب

نشر فى : الثلاثاء 27 ديسمبر 2011 - 9:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 27 ديسمبر 2011 - 9:05 ص

أخيرا، وبعد طول غياب، عادت المسألة الاقتصادية تحظى بقدر من الاهتمام فى الحوار السياسى الدائر فى مصر. قدر بسيط وغير كاف، ولكن أفضل بالتأكيد من التجاهل التام للموضوع فى الأوساط السياسية لشهور طويلة، بينما الناس تعانى من نقص الخدمات والأعمال والمواد التموينية، وتستنكر تجاهل السياسيين لكل ذلك واهتمامهم فقط بالدستور والانتخابات والصراع على السلطة. الاهتمام عاد بمناسبة تصريحات الحكومة حول سوء الأحوال الاقتصادية والخطورة المحدقة بمصر لو استمر الوضع السياسى على ما هو عليه، وهى تصريحات أبرزت ما نحن فيه من ارتفاع فى البطالة، وعزوف للاستثمار الجديد، وانخفاض فى معدلات النمو، وزيادة فى عجز الموازنة، ونضوب للسيولة، وتراجع الاحتياطى النقدى.

 

والواقع أن التصريحات الرسمية الأخيرة قد فاجأت الناس لأن الخطاب الحكومى والإعلامى ظل لشهور طويلة يقدم لهم رؤية شديدة التفاؤل حول الحالة الاقتصادية ثم انتقل بين ليلة وضحاها من التفاؤل المفرط إلى التشاؤم المخيف. ولا أظن أن سبب ذلك هو اكتشاف حقائق جديدة لم تكن معلومة من قبل، وإنما السبب أنه فى الحالتين تم استغلال الوضع الاقتصادى من أجل دفع رؤية سياسية معينة والتأثير على الرأى العام باستخدام الأرقام والمؤشرات. لشهور طويلة كانت الحكومة تطلب ود ميدان التحرير وتضع نفسها فى جانب الثورة والثوار، فوجدت أن مصارحة الناس بخطورة الوضع الاقتصادى يمكن أن تجلب عليها السخط والاتهام بأنها تشكك فى الثورة وما حققته من انجازات أو تذكى الثورة المضادة، فرأت أن التفاؤل أفضل وتجاهل الحقائق مفيد وإعطاء الناس ما يرغبون فى سماعه بشأن استرداد البلايين ووقوف العالم بجانب الثورة المصرية أقرب للسلامة. وفى ظل هذا المناخ المفرط فى التفاؤل، صار الحديث عن سوء الوضع الاقتصادى، وأهمية العمل على إعادة عجلة الإنتاج للدوران، حديثا محفوفا بالمخاطر لأنه يعرض من ينطق به لهجوم كاسح حول إحباط الجماهير والسعى لوقف تحقيق الثورة لانجازاتها. ثم فجأة انقلبت الآية تماما، أيضا لتحقيق هدف سياسى، وهو صرف الناس عن التحرير وعن الثورة والثوار، واستغلال الظرف الاقتصادى الصعب لوقف الاعتصام والتظاهر، فصار الحديث عن دوران العجلة حديثا وطنيا من الدرجة الأولى فى الخطاب الرسمى والإعلامى، ووضع الخلافات جانبا والصمت عن العمل السياسى الوسيلة الوحيدة لوقف المزيد من الانهيار الاقتصادى. وفى الحالتين فإن الحديث عن الاقتصاد والأرقام والمؤشرات لم يتم تقديمه للمواطنين بغرض المصارحة أو الدعوة للمشاركة فى حوار مفيد أو لحثهم على قبول إجراءات وسياسات اقتصادية معينة، وإنما بغرض تحقيق مكاسب سياسية وتوجيه دفة الرأى العام من موقف إلى نقيضه، وهى سياسة بالمناسبة لم تحقق نجاحا فى الحالتين لأن الناس كانت أكثر وعيا وإدراكا بطبيعة الظرف الاقتصادى على الأرض.

 

الوضع متأزم بالفعل، ولكن المدخل الوحيد الممكن لتجاوز الأزمة ليس بالإفراط فى التفاؤل ولا باستغلال الظروف من أجل الحد من النشاط السياسى، وإنما بإعادة الثقة لدى المجتمع ولدى الناس وكذلك لدى أصحاب الأعمال والمستثمرين بأن هناك تصورا واضحا للمستقبل واتفاق على خارطة للطريق للتعامل مع الوضع الاقتصادى بواقعية وبشكل يحقق الصالح العام وليس المكاسب السياسية الضيقة. الآن الوضع مختلف، والأحزاب والقوى السياسية التى صار لديها الثقة بأن لديها شرعية مستمدة من صناديق الاقتراع يمكنها أن تكون أكثر صراحة مع الناس وأكثر حرصا على مصداقيتها معهم، ولذلك فلديها فرصة تاريخية لطرح توافق عام على خمس قضايا كبرى هى المقدمة الضرورية لإعادة الثقة فى المستقبل الاقتصادى لمصر. القضية الأولى هى ضرورة التوصل لصيغة تعيد الحد الأدنى من الأمن فى الشوارع وتحقق الظروف الكفيلة بعودة جهاز الشرطة لممارسة عمله ولكن فى مناخ لا يشوبه الفساد ويتجاوز أزمة الثقة بينه وبين المواطنين دون التفريط فى محاسبة من شاركوا فى الفساد والقتل والتعذيب. أما القضية الثانية فهى ضرورة الاتفاق على إعادة الاعتبار والهيبة والمكانة المعنوية للقضاء وللقضاة ولفكرة القانون والعدالة فى حد ذاتها باعتبارها الوسيلة الوحيدة لحل المنازعات فى المجتمع وليس البلطجة ولا الساحة الإعلامية ولا التأثير السياسى.. والقضية الثالثة هى ضرورة الاتفاق على احترام التصرفات القانونية والتعاقدات والالتزامات السابقة سواء وقعت على عاتق الدولة أم كانت بين أطراف خاصة متى كانت خالية من الفساد والغش، والاتفاق على أن ما خلا منها من الفساد والغش يمكن إعادة التفاوض على تصحيحه ولكن بالوسائل القانونية وبالضغوط السياسية والشعبية. والقضية الرابعة هى ضرورة وقوف كافة القوى السياسية بمختلف أطيافها واتجاهاتها الفكرية بجانب المؤسسات الاقتصادية الوطنية من بنوك وبورصة وبنك مركزى وجهات رقابية لأنها عماد الاقتصاد الوطنى والحفاظ عليها ضرورى فى هذه الظروف الصعبة، أما اتهامها بالضلوع فى الفساد دون دليل، واعتبارها كازينوهات للقمار فلا يفيد أحدا ويضر ضررا بإلغا بودائع الناس واستثماراتهم ومصالحهم. وأخيرا فإن القضية الخامسة هى ضرورة فتح حوار وطنى بين كل الأطراف حول مفهوم العدالة الاجتماعية الذى ينشده المجتمع وكيفية تحقيقها والبدائل والخيارات المتاحة وأثر كل منها على موازنة الدولة وعلى أولويات الإنفاق وعلى السياسة الضريبية حتى لا يتحول الموضوع إلى مزايدة مستمرة لا تقابلها موارد حقيقية وتنافس بين الأحزاب على الوعد بما لا يمكن تحقيقه.

 

هذه القضايا الخمس فى تقديرى يصعب أن تكون محل خلاف كبير بين القوى السياسية الفاعلة، ولكن ما يعيق التوصل لتفاهم بشأنها هو خشية كل منها أن يأخذ موقفا قد يعرضه لفقدان جزء من شعبيته وجماهيريته فى الشارع السياسى، وقد حان الوقت لكى تأخذ القوى السياسية مواقف أكثر وضوحا وصراحة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى وتعلن للناس ليس ما يحبون سماعه فقط، ولكن ما يحقق الصالح العام على المدى الطويل.

زياد بهاء الدين محام وخبير قانوني، وسابقاً نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التعاون الدولي، ورئيس هيئتي الاستثمار والرقابة المالية وعضو مجلس إدارة البنك المركزي المصري.