نشر موقع أنطولوجيا السرد العربى مقالا للكاتبة آمال قرامى، تناولت فيه أحوال المرأة العربية، وكيف أن المجتمعات العربية تنكر أبسط حقوق المرأة بينما تعترف للرجل بحقوقه كاملة استنادا إلى المنظومة الفقهية والتقاليد!! مما أدى إلى تفوقه عليها... نعرض منه ما يلى:
كم نتمنّى أن لا تخصّ المرأة العربية بمحور بحث خاصّ فى الندوات التى تقام هنا وهناك أو فى الأركان القارية فى عدد من المجلات والدوريات أو حتى فى مواقع شبكات الإنترنت. ولكن يبدو أنّنا لم نصل بعد إلى مرحلة التفكير فى قضايا الإنسان عموما، أى الشخص البشرى بقطع النظر عن جنسه أو عرقه أو لونه أو دينه. ففى حين يكون الرجل ذاتا، تبقى المرأة موضوعا يستدعى منّا مزيد التمحيص والمعالجة المعمّقة، نظرا إلى تدنى منزلتها فى المجتمعات العربية المعاصرة. وبينما تتوسّع دائرة الاجتهاد فى إشكاليات مختلفة تخصّ التفكير الإسلامى، يظلّ «فقه النساء» مشدودا إلى قضايا تقليدية مثل تعدّد الزوجات، الحجاب، الخروج إلى العمل، وغيرها من المواضيع التى ما زالت تؤثر فى حياة المرأة وفى منزلتها.
ولئن حاول بعضهم طرح إشكاليات جديدة معبّرة عن الواقع المتغيّر فإنّ هذه المحاولات تبقى عملا فرديا. وبناء على ذلك فإنّ ممارسة فكر نقدى متعلّق بقضايا المرأة لم يؤد إلى ظهور حقل معرفى مخصوص مثلما هو الشأن بالنسبة إلى واقع المعرفة فى الغرب إذ ظهر مبحث المرأة والدين أو الجندر والدين. بيد أنّ هذه المجالات لم تتهيأ بعد الأرضية الملائمة لظهورها فى المجتمعات العربية أو الإسلامية المعاصرة.
كم نتمنّى أيضا أن يتطرّق جميع الباحثين إلى مواضيع تشغل الضمير الجمعى دون حرج أو خجل أو خوف. إنّ الباحث المهتم بالقضايا النسائية، سواء انتمى إلى الثقافة العربية أو الغربية، ما زال ينظر إليه على أنّه باحث من درجة «ثانية» وذلك بسبب خضوع المعرفة للجندرة. فكما هو معلوم هناك تصنيف لحقول معرفية على أساس الجنس: مواضيع يتطرّق لها الرجال، وهى شريفة كالفلسفة وعلم الكلام وعلم الحديث وغيرها. وفى المقابل، هناك مواضيع تخصّ النساء وينظر إلى المنشغلين بها نظرة استنقاص.
لقد آثرنا أن نتطرّق إلى موضوع ما زال يحرج الضمير الجمعى الإسلامى: «مساءلة الجسد الأنثوى فى التفكير الإسلامى». ولم يكن سبب اهتمامنا بهذا الموضوع راجعا إلى الوفاء للجنس الذى ننتمى إليه. فالباحث من المفروض أنّه حيادى لا يربط بين موضوع البحث وهويته الجنسية، ولكن عقدنا العزم على طرح إشكالية ما زالت تتطلّب الحفر والتحليل. ذلك أنّ الجسد يشكّل محور هوية المرأة، بل محور هوية الأمّة. وانطلاقا من ذلك يعدّ الجسد أداة المقاربة الأساسية للمرأة.
***
إنّ الناظر فى كتب التراث يتبين أنّ الحديث عن جسم المرأة هو حديث حول التغييرات البيولوجية لهذا الجسد الأنثوى (حالات الحيض، الإخصاب، المرض،...). والكتابة حول هذا الموضوع كتابة وصفية ترسم حدود المسموح به والممنوع حتى يغدو الجسد جسدا خاضعا لمنظومة قيمية محددة، أى جسدا منضبطا. وفى مقابل ذلك لا يحضر الجسد الذكورى بنفس درجة حضور الجسد الأنثوى ولا يخضع لنفس التقنين.
ذاك هو فقه النساء: حديث الرجال حول جسد مهيأ لأن يكون مادة استثمار داخل مؤسسة الزواج. وحتى الآراء التى وصلتنا بخصوص موقف المرأة من الأحكام التى حدّدت علاقتها بالآخرين، آراء محدودة لا تؤسس لتفكير معمّق حول مكانة المرأة فى المجتمع أو موقفها من النصوص التى تضبط علاقتها بجسدها. فهل نحن إزاء تهميش أم تعتيم أم تصميت؟ لا غرابة فى ذلك ما دامت الكتابة فعلا ذكوريا وما دام التاريخ تاريخ الرجال.
ما من شكّ أنّ التحولات التى شهدتها المجتمعات العربية، إن كان ذلك على مستوى نمط العيش أو أشكال التواصل أو نمط المعرفة القائم على استثمار ما أفرزته الحداثة من قيم قد أجبر الإصلاحيين على النظر فى منزلة المرأة ومن ثمة طرحت قضية التعليم وقضية العمل وحق المرأة فى الخروج وغيرها من القضايا بيد أنّ الاهتمام بعلاقة المرأة بجسدها ظل محتشما ومحدودا وفى كثير من الحالات، محرجا نظرا إلى ارتباط الجسد الأنثوى بالجنسانية.
لقد أفرزت حركات ما بعد الحداثة تفطن المرأة العربية إلى غياب تقاليد إصلاحية بخصوص التفكير فى علاقة المرأة بجسدها فى التراث الفقهى من جهة، وإلى وعى النساء بمدى تأثير التصوّر الذكورى للجسد الأنثوى فى تدنّى منزلة المرأة. ولذلك نهضت مجموعة من النساء بعبء إعادة النظر فى المنظومة الفقهية وتشكيل وعى جديد لدى المرأة، يحفزها على التفكير فى طبيعة العلاقة التى تربطها بجسدها.
***
ولمّا كان المجال لا يسمح بالخوض فى جميع أوجه هذه العلاقة فقد آثرنا التوقف عند بعضها من ذلك:
1ـ حقّ المرأة فى التصرّف فى جسدها
لمّا كان الوعى الجديد بضرورة تطوير المنظومة الفقهية قد صدر من خارج المؤسسة الدينية ومن قبل شخصيات فكرية ذات توجهات أيديولوجية متعددة، فقد أمكن طرح أسئلة جديدة ترتبط بمفهوم الجسد المكلّف بالإنجاب. فهل بمقدور المرأة تنظيم الولادات وتحديد النسل واتخاذ قرار الإجهاض أم إنّها ليست مخيّرة فى التحكّم فى جسدها وفى وظيفتها الإنجابية ويبقى القرار النهائى بيد الزوج باعتباره الناكح والمرأة منكوحة.
لقد عمدت عدد من الباحثات إلى الخوض فى موضوع حقّ المرأة فى المتعة وحقّها فى المطالبة برفع الضيم الذى يلحقها نتيجة استهتار الزوج بحقّها أو غيابه. ولا حلّ لهؤلاء، حسب رجال الدين والدعاة، سوى الصبر والاستعانة بالدين بالإكثار من الصلاة والصوم لحفظ الأعراض.
وبالإضافة إلى ذلك لم تتوان عدد من الدارسات عن إثارة موضوع الجسد الأنثوى المستمتِع لا داخل مؤسسة الزواج، فقط بل خارجه. فتمّ كسر جدار الصمت وظهر التنديد بالرياء الاجتماعى والنفاق وتمّ الكشف عن الأساليب التى تلجأ إليها المرأة للهروب من الضغوط النفسية والمراقبة والعقاب العائلى فى ظلّ مجتمع قدّس العذرية وأثّم الجسد الأنثوى. ففى المجتمعات العربية ذات البنية البطريكية يُلزم الرجالُ النساءَ بالعفّة فى مرحلة ما قبل الزواج وبعدها، ويطالبنهنّ بإثبات عذريتهن بينما يتغاضى المجتمع عن عفّة الرجال.
2ـ الطاعة فى الفراش أم الشراكة فى المتعة؟
لئن ألحّت كتب التراث على ضرورة تدبير الجسد الأنثوى حتى يكون جسدا مسخّرا لإرضاء الطلبات الجنسية للبعل، فإنّ المنضوين تحت قيم الحداثة، حاولوا التنبيه إلى دور التنشئة الاجتماعية فى ترسيخ مقولة «الجسد الوليمة» والنتائج المترتبة عن ذلك كتهميش حاجة المرأة إلى الإشباع الجنسى وإذعانها للرجل أداء للواجب وخوفا من العقاب المسلّط على الناشز. ومن ثمّة تجاوز أنصار الحداثة الطرح التقليدى الذى يلحّ على ضرورة طاعة المرأة فى الفراش باعتبارها مملوكا للزوج لا تتصرّف فى نفسها، إلى التأكيد على مفهوم الشراكة فى المتعة بعيدا عن هيمنة الزوج وتسلّطه.
3ـ الجسد المستباح والكرامة الإنسانية
لم تول كتب الفقه أهميّة كبرى لظاهرة العنف المسلّط على المرأة وهو عنف لفظى وعنف مادى (جرائم الشرف والتأديب والخفاض...) وعنف رمزى. أمّا المحدثون فقد انكبوا على دراسة هذه الظاهرة وتفكيك مختلف البنى التى تقف وراء العنف، كما أنّهم عملوا على التنبيه إلى مختلف المؤسسات التى تعضد القهر. فانتقدوا «حقّ الرجل فى تأديب زوجته بالضرب» مشيرين إلى ضرورة إقامة العلاقة الزوجية على قيم المودة والمحبّة لا علاقة الابتزاز وهدر كرامة المرأة بتبرير حقّ الرجل فى الضرب والتأديب لضمان الطاعة. وكأنّ واجب المرأة الوحيد طاعة الزوج فى الفراش وتجنّب كلّ تصرّف حرّ فى جسدها. وما من شكّ أنّ العنف المسلّط على الزوجة يوظّف لتكريس تفوّق الرجل على المرأة وامتيازه بجملة من الحقوق من ذلك حقّ الرغبة. إذ لا معنى لتواصل جرائم الشرف إلا رفض المجتمع الذكورى أن تكون المرأة صاحبة رغبة ذاتية، أى أن يكون لها شوق ذلك أنّ الشوق عنوان التحرّر من كلّ أشكال السلطة المفروضة والعبور إلى الاستقلال.
4 ـ الجسد الحامل لعلامة
لئن اتفق أنصار الحداثة والمحافظون على إثارة قضية تشيىء جسد المرأة فى مجتمع الاستهلاك فانتقدوا بشدّة الإعلام البصرى الذى يقدّم الجسد الأنثوى باعتباره سلعة معروضة تغرى الناظر، فإنّ هؤلاء اختلفوا فى الأهداف. فبينما كان مقصد المحافظين حماية الأخلاق ودعوة المسلم إلى مقاطعة «الكليبات» المثيرة للغرائز، فإنّ المحدثين لم يتناولوا هذه الظاهرة من منظور التحريم، بل من زاوية تكريم الجسد الأنثوى والارتقاء به من وضع الشىء إلى وضع يحفظ كرامته وينزّهه. وبالإضافة إلى ذلك سعى المحدثون إلى التنديد بخطاب المتشدّدين القائم على اعتبار المرأة رمز الهوية. فزواج المسلمة بغير المسلم لا ينظر إليه إلاّ من زاوية هيمنة الثقافة الغربية على الثقافة الإسلامية.
لقد عمل أنصار الحداثة على دعوة المشرّع إلى مراقبة الجهاز اللغوى المعتمد فى النصوص التشريعية مثل النكاح، النشوز، تسليم النفس والوطء وغيرها. فهذه الكلمات تخدش كرامة المرأة ولا تتماشى مع القيم الواردة فى منظومة حقوق الإنسان. إذ لا يخفى أنّ جسد المرأة فى هذا الخطاب الأخلاقى الوعظى هو حامل لعلامة ظاهرية دالة على الهوية فى زمن الانكسار. والمرأة المسلمة يجب أن تهب جسدها للأمّة حتى ترسم عليه آمالها وهواماتها باعتبار أنّ المرأة مكلّفة بهذه الرمزية وتجد قيمتها ليس فى كيانها الذاتى إنّما من القيمة التى تسبغ على وظائفها وأدوارها. ولكن إلى متى يختزل كيانها فى وظائف ودلالات تخدم الآخرين ولا تخدمها؟
النص الأصلى:من هنا