فجر الضمير.. جيمس هنري برستد - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الخميس 30 يناير 2025 7:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

فجر الضمير.. جيمس هنري برستد

نشر فى : الثلاثاء 28 يناير 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 28 يناير 2025 - 7:53 م

 فى يناير من عام 1956 وحين وضع عالم الآثار المصرى سليم حسن ترجمته للكتاب الذى بين أيدينا كتب يقول: «ولست مبالغًا إذا قررت هنا أن خير كتاب أُخرج للناس فى هذا العصر {فى حضارة مصر القديمة} هو كتاب «فجر الضمير» الذى وضعه الأستاذ «برستد» فى عام ١٩٣٤».

الفكرة الأساس فى هذا الكتاب هى أن مصر القديمة هى مهد حضارة العالم، وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون أسس دينهم، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين تلك المبادئ الدينية. ويلخص سليم حسن فى مقدمة الترجمة خلاصة مذهب برستد فى كتابه وهو أن العبرانيين قد نقلوا الحضارة المصرية إلى أوروبا مشوَّهة بعض الشىء، ثم صقلها الأوروبيون حسب أمزجتهم وألبسوها ثوبًا جديدًا، فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نَسج على منواله الكُتاب الأوروبيون قديمًا وحديثًا، يرجع فى عنصره إلى أصل مصرى قديم.

وقد كتب برستد هذا الكتاب فى فترة ما بعد الحرب الكبرى التى ستعرف لاحقا باسم الحرب العالمية الأولى، وقد تأثر برستد متأثرا بالخراب الكبير الذى تسببت فيه الحرب العالمية، ورأى أنه لا توجد قوة بوسعها إيقاف التخريب وسفك الدماء سوى الضمير الإنسانى. 

كانت البداية حين فسر المؤلف أوراق بردى مصرية تعود لتاريخ 2000 سنة قبل الميلاد، وفيها نصوص أدبية تشكل نظاما أخلاقيا كاملا لمفاهيم العدالة الاجتماعية. وبهذا فإن أقدم مرجع أخلاقى مدون نجده عند قدماء المصريين.

النتيجة المدهشة التى ستفتح بابا كبيرا للجدال لكتاب برستد هو ذهابه إلى أن سفر الأمثال الشهير فى أسفار العهد القديم لدى العبرانيين منحول من نص مصرى قديم يعرف باسم تعاليم أمين موبى Instruction of Amenemope الموجودة فى بردية مصرية فى المتحف البريطانى، وذهب برستد إلى أنها تُرجمت إلى العبرية فى أزمان غابرة وانتحلها سفر الأمثال.

يقول برستد إنه نشأ فى طفولته على حفظ بعض مبادئ التوراة وكان يحفظ عن ظهر قلب الوصايا العشر، لكنه عرف لاحقا أن كثيرا من الأدب المصرى القديم هو الأصل الذى دخلت منه مفاهيم كثيرة إلى أسفار العهد القديم.

ويتألف الكتاب من 17 فصلا تتعرض لأسئلة بالغة التشويق عن آلهة الطبيعة والمجتمع الإنسانى؛ مع التركيز على إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية؛ وكيف أن العقيدة الشمسية كانت تكافح الموت. ويتطرق الكتاب إلى «متون الأهرام» وصعود فرعون إلى السماء، والمذهب الشمسى والآخرة السماوية، علاوة على دراسة آلهة الطبيعة والمجتمع الإنسانى من خلال التركيز على مثال «أوزير»، وكيف ارتبط نور الشمس والخضرة، وكيف اجتمع السلوك، والمسئولية، كتمهيد لظهور النظام الخلقى. وتعرض الكتاب أيضا إلى انهيار المذهب المادى والظروف التى مهدت لظهور الأنبياء الاجتماعيين الأوائل، وكيف وضعت الحضارة المصرية أقدم جهاد فى سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية، مع توقفه عند أقدم عقيدة للتوحيد ثم سقوط إخناتون.

•••

الكتاب من بدايته مراوغ فى عنوانه، ذلك لأن كلمة «ضمير» يساء فهمها فى ثقافتنا منذ النصف الثانى من القرن العشرين. ولن نفهم المعنى الكامل لأطروحة «الضمير» إلا بعد الانتهاء من قراءة الكتاب كله البالغ نحو 550 صفحة.

كما أن جيمس برستد ــ  عالم الآثار الأمريكى ــ انتهى من هذا العمل الرائد قبل ما يقرب من قرن مضى من الزمن وهو ما قد يجعلنا نتردد فى القراءة أخذا فى الاعتبار أن علم الآثار وتفسير تاريخ مصر القديم يتطور كل يوم وربما أصبح الكتاب «خارج الزمن».

وبعد أن أتم ترجمة هذا الكتاب قدم المترجم ــ عالم الآثار المصرى الشهير «سليم حسن» ــ للمكتبة العربية موسوعة ضخمة عن تاريخ مصر القديمة وهو  ما قد يوحى للقارئ بأن سليم حسن قد عوضنا عن كتاب برستد ولسنا فى حاجة إليه اليوم. غير أن الكتاب ما زال صالحا للقراءة كما كان صالحا زمن تأليفه.

وأول مبررات ذلك أن الضمير الذى يتخذه المؤلف عنوانا رئيسا هو معنى أشمل من «العقيدة الدينية» بل هو «أبو العقيدة». الضمير الإنسانى هنا هو ذلك النظام الأخلاقى الذى وضع قواعد لثنائية «الحق والباطل» وما يتفرع منها من كل فروع الأخلاق، الضمير المقصود فى الكتاب هو الأب الشرعى للأديان الشهيرة وخاصة الديانة اليهودية، وأرض مصر هى تلك الأرض التى شهدت تفجر ينابيع ذلك الضمير (أو فجره).

كما أن برستد يرى أن ما يسمى الكتب المقدسة فى الديانة اليهودية هى مجرد «أدب عبرى» ويقصد بالأدب هنا مجموعة من القصص والأشعار والتعابير البلاغية التى يبدو أنها مستوحاة إن لم تكن «منتحلة» حرفيا من نصوص مصرية قديمة عرفها العبرانيون خلال إقامتهم فى مصر.  وإذا صدقنا نظرية برستد على اليهودية فلابد أن يشمل ذلك بقية الأديان الثلاثة.

ورغم تقادم معلومات الكتاب منذ تاريخ صدوره مقارنة بما توصلت إليه علوم المصريات اليوم إلا أنك لا تشعر أنه فقد قيمته. فقد صنع المؤلف ــ بخبرة الباحث الذى أفنى عمرا ــ من التفاصيل الصغيرة مفاهيم أوسع وأشمل.

فلقد قارن برستد مثلا بين إنسان العصر الحجرى فى مصر وصراعه الدامى مع بنى جنسه ومع الحياة وما يقوم به إنسان الحرب العالمية التى انتهت بخسائر بشرية فادحة.

وبتسلسل مدرسى يستهل المؤلف كتابه بتفكيك لغز الآلهة المصرية. وكأنه أستاذ فى حصة مدرسية يبين للطلاب بلغة سهلة وأمثلة بسيطة كيف ظهر أول إلهين معبودين فى مصر استجابة للجغرافيا الطبيعية حيث كان رع إلها للشمس وهى الظاهرة الفلكية الأكبر تأثيرا على حياة مصر، وأوزير إلها للنيل وبالتحديد إله للخضرة والخير والنماء الذى يجلبه النيل. من هذين المعبودين يأخذنا المؤلف بالتدريج إلى كيفية انبثاق الآلهة المصرية والصراع عليها وإعلاء رتبة هذا على حساب ذاك.

•••

يعد الكتاب عملا مبكرا ورائدا فى فحص «الأدب المصرى القديم» وهو مجال لا يلقى اهتماما كبيرا إلا من ثلة من علماء الآثار مقارنة ببقية فروع علم المصريات  وبتركيزه على الأدب المصرى تنكشف أمام برستد مصادر استلهام الكتب العبرانية المقدسة من النصوص المصرية بل وبعض استشهادات من بلاغة العهد الجديد فى المسيحية أيضا.

الكتاب أيضا يعالج فكرة غامضة ولكنها على درجة عالية من الأهمية وهى كيفية صناعة الضمير العام للشعب المصرى؟ كيف صاغ مجموعة من أصحاب الرأى الثاقب والحكماء والفلاسفة الصيغ الدينية والأخلاقية التى حددت ما هو الحق وما هو الباطل؟ وكيف انتقلت معايير النظام الأخلاقى من هذا المستوى الرفيع الذى انشغلت به شريحة محدودة فى قمة الهرم المجتمعى إلى جنبات الشعب المصرى ليصبح أول شعب اخترع الأخلاق التى هى أساس الأديان التى تلت، بما فيها حتى فكرة التوحيد الإلهى ونبذ شراكة الآلهة المتعددة.

بدهى أن الكتاب قد لا يعجب أهل التخصص بعد نحو قرن من زمانه وأفكاره لكنه مفيد جدا فى القراءة بل و«إعادة القراءة» فهو من تلك الكتب التى تفهم منها أفكارا فى سن العشرين ثم إذا قرأته فى سن الأربعين تجلت لك مفاهيم أخرى وربما قراءة ثالثة فى الستين تقرب إليك بعضا مما لم يكن واضحا فى المرة الأولى.

وفى كلمة موجزة يمكننا القول إن هذا الكتاب قد قرر ملايين القراء فى مصر الاطلاع عليه لكن قليلا منهم فعل، خشية ضخامة المعلومات وصعوبتها أحيانا، والطبيعة الشائكة لبعض أطروحاته الشيقة المثيرة للجدال والنقاش فى أحيان أخرى.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات