لو كان سعر الفائدة رجلا لقتلته. وهذه هى الدوافع والأسباب.. من المعروف كيف اشترط صندوق النقد الدولى على مصر عدم التحكم فى سعر الصرف، وهو ما أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه المصرى إلى نحو نصف قيمته بين ليلة وضحاها، واستمراره عند هذا الوضع. وأدى ذلك إلى ارتفاع كبير فى الأسعار. فشل الصندوق فى توقع هذا الانهيار الكبير فى قيمة العملة، كما فشل فى التنبؤ بهذا الارتفاع الكبير فى التضخم (قدر الصندوق التضخم بنحو 18% فى حين استمر فى الواقع أعلى من 30%).
وللتحكم فى القفزات المتتالية السريعة فى الأسعار من شهر إلى شهر، فرض الصندوق رفع سعر الفائدة. إلا أن تلك الآلية لم تثمر النتيجة المرجوة فى مصر على مدى الأشهر الستة الماضية.
التضخم وسعر الفائدة.. الدواء به سم قاتل
نظريا، يؤدى رفع سعر الفائدة إلى الحد من التضخم، عبر امتصاص السيولة من الاقتصاد..
إذ تشجع الفائدة العالية المدخرين على زيادة مدخراتهم البنكية، وتحمى الودائع فى البنوك من انخفاض قيمتها، كما أنها تصرف الناس عن الاقتراض من البنوك سواء من أجل الاستهلاك (من ذا الذى يفكر فى شراء سيارة عبر قرض سوف يسدده مضاعفا خلال بضعة أعوام؟)، أو من أجل الاستثمار (من الصعب أن تجد استثمارا يحقق أرباحا أعلى من 18 فى المائة، وهى الفائدة التى سوف يدفعها إلى البنك نظير اقتراضه). وهكذا، يفترض أن ينحسر التضخم بسبب أن الناس ستضع فوائضها فى البنوك ولن تقبل على الاستهلاك أو على الاستثمار.
فإذا فشلت الآلية فى أن تحقق ولو قليلا من الهدف منها، فبم ينصح الصندوق؟ بالمزيد من الدواء نفسه.
انتشرت فى أروقة صندوق النقد الدولى بواشنطن، خلال اجتماعات الربيع للبنك والصندوق الدوليين والتى اختتمت الأحد 23 إبريل، أخبارٌ عن عزم الصندوق على ربط الشريحة الجديدة من قرض الـ12 مليار دولار بالمزيد من رفع سعر الفائدة (وباستكمال زيادة أسعار الطاقة التى تؤدى إلى موجات تضخمية جديدة).
ولكن على مدى الشهور الستة السابقة، انحسر الاستهلاك والاستثمار (وبالتالى النمو)، فى حين بقى التضخم عنيدا.. لماذا؟
يلفت نظرنا تقرير لوكالة بلومبرج، إلى سبب مهم وهو انخفاض نسبة المتعاملين مع البنوك، فهم لا يتعدون 10٪ من إجمالى السكان، وبالتالى، لا يؤثر كثيرا سعر الفائدة فى حجم السيولة فى الاقتصاد، إذ يتحرك الجزء الأكبر من المعروض من النقود فى دوائر أخرى بعيدا عن البنوك. ووفقا لنفس التقرير، فإن التضخم ناتج عن صدمات الأسعار بسبب التعويم وزيادة أسعار الطاقة، وليس بسبب فرط النشاط الاقتصادى.
ولذلك على الصندوق والحكومة إيجاد وسيلة أخرى للحد من التضخم عدا رفع سعر الفائدة.
خاصة أن استمرار هذا الارتفاع (ما نسميه بالسياسة النقدية الانكماشية) له آثار سلبية عميقة إلى جانب الحد من النمو (يتوقع الصندوق أن ينخفض إلى 3٪ خلال العام الحالى بدلا من التوقع الحكومى، 4%). وانخفاض النمو يعنى ارتفاع البطالة. وتوضح الفقرات التالية باقى الآثار السلبية.
البكاء على عجز الموازنة.. دموع التماسيح
لا يمكن فصل السياسة النقدية (القائمة على تحكم البنك المركزى فى سعر الفائدة) عن السياسة المالية (القائمة حاليا على تخفيض عجز الموازنة). فكلما كان سعر الفائدة مرتفعا، صار على الحكومة أن تسدد فاتورة أضخم من مدفوعات الفائدة على ديونها التى تبلغ سنويا عدة مئات من المليارات.
وهكذا قفزت الفوائد على الديون بعد التعويم لتصل إلى أكثر من ثلث الإنفاق العام، مقارنة بربع الإنفاق قبل عامين.
أى أن الفوائد صارت تأكل أكثر فأكثر من بنود الإنفاق الأخرى، مثل الاستثمارات والأجور ودعم المزارعين، وتنمية الصعيد، وعلاج الفقراء، وتوفير الأدوية ومستلزمات المستشفيات والمدارس، وغيرها من بنود الإنفاق الحكومى المهمة.
وهكذا، حين أصر الصندوق على تخفيض قيمة الجنيه، وجدت الحكومة عجز الموازنة يرتفع، بسبب تضاعف ثلاثة فواتير: الطاقة والسلع الغذائية المستوردتين، وكذلك سداد خدمة الدين الخارجى. (زاد الدين الحكومى بأكثر من %15 جراء التعويم). ثم جاء رفع سعر الفائدة، ليزيد طين العجز بلة..
فلما تكشفت صعوبة تحقيق خفض عجز الموازنة مع تلك السياسات التى فرضها الصندوق، اتفق هذا الأخير مع الحكومة على ألا نتحدث عن عجز الموازنة، كمعيار لنجاح الإصلاح. بل لنتحدث عن مؤشر آخر يستبعد الفوائد من العجز، يسمى العجز الأولى!
وهكذا، يزداد عجز الموازنة مع كل زيادة لسعر الفائدة، ولكننا نخفيه.. بينما نحتفل معا فى قاعة فخمة لأننا نجحنا فى خفض كل بنود الإنفاق الأخرى على حساب التنمية.
والأهم هو أن الاقتصاد يعلمنا أنه كلما زاد عجز الموازنة زاد معدل التضخم! أى أننا ضربنا الهدف الأصلى وأفقرنا ملايين المصريين.
فقد زاد بند الفوائد التى يتحتم على الحكومة دفعها إلى مقرضيها.. أى خسرت الحكومة أموالا تلزمها كى تعمل على تحسين الخدمات التى تقدمها إلى مواطنيها، بينما يربح أولئك الذين يقرضونها.. فمن هم أولئك الذين من مصلحتهم أن تقترض الحكومة أكثر فأكثر، كى تكبر غنيمتهم، كالجوارح التى تحوم فوق المعارك حيث تكثر الجيف؟ هذا هو السبب الثالث كى نكره رفع سعر الفائدة.
من يملك ديون مصر؟
يعتبر إصدار أوراق دين حكومية محلية (سندات وأذون خزانة) بديلا أفضل نسبيا من طبع النقود لسد العجز (لأنه أقل توليدا للتضخم من الطبع). إلا أن التمادى فيه بدون رقابة شعبية، فى بلد غير ديمقراطى، يؤدى إلى تكدس الثروة فى يد عدد صغير من ملاك تلك الأوراق الحكومية.
ومن ثم يصبح من مصلحة هؤلاء أن تظل الدولة تستدين منهم، وبأعلى أسعار فائدة.
من المفترض اقتصاديا أن يعكس سعر الفائدة حجم مخاطر الاستثمار. إلا أن الاستثمار فى الأوراق الحكومية شبه معدوم المخاطر، لأن الحكومة تسدد دائما ما عليها من ديون. وحتى لو تعثرت، زادت الفوائد التى تدفعها إلى المقرضين، أى زادت أرباحهم.
لذا ينظر إلى الفوائد على الاستثمار فى الديون الحكومية على أنها ريع صافٍ، بعكس الربح الناتج عن مخاطرة الاستثمار فى الصناعة أو التكنولوجيا.
ولهذا يجب ألا تكون فوائد الدين الحكومى مرتفعة حتى لا تثبط المستثمرين عن الاستثمار فى القطاعات المهمة عالية المخاطر. ولكن أيضا بسبب آثارها السلبية على توزيع الثروة.
ويلحظ البنك الدولى ــ عند مقارنة مصر بعدد كبير من الدول ــ أن مدفوعات الفوائد فى مصر ترتفع كثيرا (أصلا من قبل التعويم) عنها فى سائر الدول ذات نسبة الدين الحكومى المشابه، مثل: المجر، وموريتانيا. أو ذات الدين الأكبر مثل: إريتريا، وقبرص، وإيطاليا، وإيرلندا، والبرتغال.. فما السبب فى ذلك؟ أعتقد أن أحد الأسباب الجديرة بالاعتبار فى الحالة المصرية يرجع إلى احتكار القلة من ملاك أوراق الدين، أى وضع القوة الذى صارت عليه تلك القلة من المؤسسات المالية التى تشترى أذون الخزانة.
بشكل عام، يحصد أى مالك لأوراق الدين الحكومى فى مصر عائدا يناهز الـ20% على كل جنيه يشترى به ورقة دين حكومى. وبالتالى يفضله على أى استثمار آخر.
ووفقا للنظام المصرى، لا يسمح لأى شخص شراء أوراق الدين، بل هو أمر متاح فقط للبنوك وبنوك الاستثمار. وكما أسلفنا لا يتعامل هؤلاء إلا مع أقلية هى أغنى 10% من المواطنين. وهكذا كل زيادة فى أرباح البنوك، تترجم فى شكل زيادة ثروة مالكيها ومديريها وعملائها من المودعين.
ووفقا لموقع وزارة المالية، احتكر عدد صغير يتراوح بين خمسة وعشرة بنوك نحو ثمانين بالمائة من عمليات شراء أذون الخزانة المصرية، هم المتعاملون الرئيسيون فى شراء أوراق الدين، وذلك خلال السنوات القليلة الماضية.
لذا من مصلحة حائزى أذون الخزانة الإبقاء على الدين الحكومى كبيرا وعلى سعر الفائدة مرتفعا، فنحن نتحدث عن أرباح سنوية صارت فى حدود 180 مليار جنيه، تدخل بشكل غير مباشر من جيوبنا إلى جيوب هؤلاء.
ويجدر على صندوق النقد أن يتحرى أسباب ارتفاع سعر الفائدة فى مصر بشكل علمى من أجل تخفيض هيكلى لها، بدلا من وصف علاج خاطئ ومؤذٍ.
الخلاصة، سعر الفائدة ليس مجرد أداة تقنية فى يد البنك المركزى.. هو قرار له أبعاد اجتماعية متعددة، يدفع المواطنون ثمنه.. قرار يغنى من يشاء ويفقر من يشاء.. لذا وجب التنويه.
البديل.. سهل
البديل هو الاعتماد على السياسة الضريبية للحد من التضخم، بدلا من السياسة النقدية.
فزيادة الضرائب تؤدى إلى تقليص عجز الموازنة، ومن ثم التضخم. وهى إن أحسن تصميمها تثبط طلب الشرائح الغنية والتى تقبل على شراء السلع المستوردة (أهم منابع زيادات الأسعار). وذلك عن طريق فرض ضرائب تصاعدية على الدخول العليا، خاصة تلك المتولدة عبر الريوع (الاستثمار فى أوراق الدين الحكومى وبيع الأراضى والعقارات والأرباح الناتجة عن بيع الشركات كلها أو حصص كبيرة منها)، وكذلك فرض الضرائب على الثروات غير المستغلة مثل العقارات المغلقة، أو تلك التى لم يبذل فيها مخاطرة أو مجهود لحيازتها مثل تلك التى تنتقل عبر الوراثة، أو الهبات السخية التى يمنحها الأغنياء إلى أبنائهم (مثل شقق ومهور عند الزواج). واللطيف أن أثر مثل تلك الضرائب على النمو إيجابى. كما أن لها أثرا إيجابيا على محاربة اللامساواة وإعادة توزيع الثروة، ومن ثم تعزيز الاستقرار الاجتماعى.
باختصار، البديل هو تحصيل الضرائب ــ ومن ثم تخفيض العجز والتضخم ــ من جيوب أولئك الذين يملكون حاليا الدين الحكومى، بدلا من زيادة ثرواتهم ــ والعجز والتضخم ــ عن طريق أن تستدين الدولة منهم.