ليس لدىّ أى شك فى أننا نعيش الآن فى حقبة «أفول العصر الأمريكى»، الفكرة ليست جديدة، بل تعود إلى ما قبل ربع قرن على الأقل. فى ذلك الوقت ظهر كتاب أكاديمى أمريكى (بول كينيدى) بعنوان (صعود وسقوط القوى العظمى، 1987) وقال فيه إن الولايات المتحدة لابد أن يصيبها ما أصاب غيرها من دول عظمى قبلها، بسبب التوسع الزائد عن الحد (overstretch) فى فرض النفوذ. وقد وصل بول كينيدى إلى ان هذا الأفول يكاد يكون حتميا، إذ تميل الدولة العظمى، بعد بلوغها درجة معينة من القوة والسيطرة، إلى ان تمد نفوذها إلى أبعد من طاقتها، أى إلى أبعد مما تستطيع الاحتفاط به، إذ يفرض عليها هذا التوسع نفقات اقتصادية فضلا عن بعض الأعباء السياسية والاجتماعية، لا تقدر على مواجهتها، فإذا بها تنكمش وتضطر إلى تقليص نفوذها، ويحمل هذا الانكماش وتقلص النفوذ كل مظاهر الأفول وفقدان القوة.
طبق بول كينيدى هذا «القانون» على الولايات المتحدة فإذا به يصل إلى نتيجة متشائمة مؤداها ان الولايات المتحدة قد أصابها بالفعل هذا المرض الذى أصاب الامبراطورية البريطانية فى أوائل القرن الماضي، وان مصير الولايات المتحدة هو نفس مصير بريطانيا، وهو ان تتحول إلى دولة عادية عاجزة عن فرض إرادتها على العالم.
لم ينقطع منذ ذلك الوقت الكلام عن احتمالات تدهور مركز الولايات المتحدة فى العالم، وكان من أهم ما كتب فى هذا الصدد مقال لمحلل أمريكى من أصل هندى (فريد زكريا) فى مجلة أمريكية مهمة (الشئون الخارجية Foreign Affairs) فى مايو/ يونيو 2008، بعنوان «مستقبل القوة الأمريكية» وتحته السؤال الآتى: «هل تستطيع الولايات المتحدة ان تستمر فى الحياة بنفس القوة بعد صعود قوى أخرى جديدة فى العالم؟».
السؤال مهم بالطبع، وهو يهمنا فى مصر بالطبع أيضا، خاصة إذا صح اعتقادى (الذى عبرت عنه فى مقالاتى الأخيرة) بأن كثيرا من أهم ما صادف مصر من مشكلات وعطل تقدمها فى الستين عاما الماضية، كان بسبب دخولها مثل غيرها من بلاد العالم الثالث، فيما أسميته «بالعصر الأمريكى». وعلى الرغم من محاولة مجلة الشئون الخارجية، وهى القريبة من مراكز صنع القرار فى الولايات المتحدة، الايحاء بخطأ «نظرية الأفول»، فإنى أجد الحجج المؤيدة لها أقوى بكثير، بل ويكاد يكون من المستحيل انكارها.
انظر أولا إلى معدلات النمو الاقتصادى، ان من بين مؤشرات تدهور النفوذ البريطانى فى بدايات القرن الماضي، لصالح قوى جديدة صاعدة، كألمانيا والولايات المتحدة، أن معدلات نمو الاقتصاد البريطانى قبيل الحرب العالمية الأولى كانت أقل من 2٪ سنويا، بينما كانت معدلات نمو الاقتصاد الأمريكى والألمانى أكثر من 5٪. ان الفجوة الحالية بين معدلات نمو الاقتصاد الأمريكى والاقتصاد الصينى أكبر من هذا بكثير، سواء بعد أو قبل الأزمة العالمية الراهنة، وهذا الفارق لابد ان ينعكس فى نصيب كل من القوى الكبرى فى الإنتاج العالمى، وقذ ظهر بوضوح أكبر فى تدهور نصيب الولايات المتحدة فى التجارة الدولية، نتيجة لتدهور قوتها التنافسية، خاصة إزاء دول شرق وجنوب آسيا. يضاف إلى ذلك ما حدث لمكونات الناتج القومى الأمريكى، من حيث إن نصيب الخدمات فى إجمالى الناتج القومى الأمريكى، آخذ فى الارتفاع على حساب الناتج الصناعى، بينما لا يحدث مثل هذا فى دولة كالصين.
إن معدل الادخار فى الولايات المتحدة صفر، وأحيانا سالب، مما يؤدى إلى الاعتماد أكثر فأكثر على الاستثمارات الآتية من الخارج، وهذه ليست مضمونة، فضلا عن أخطارها السياسية، والعجز مستمر ومتفاقم فى الميزان التجارى الأمريكى، وليس هناك ما يبشر بانتهائه، إذ يعود إلى ضعف القدرة التنافسية، وهذا يرجع بدوره إلى خلل عميق يتعلق بضعف الإنتاجية وارتفاع فى النفقات مما يصعب تصحيحه. والتدهور الحتمى فى قيمة الدولار، الذى لابد أن ينتج عن العجز المستمر فى ميزان المدفوعات الخارجية، لابد أن يهدد تلك الميزة الكبيرة التى متع بها الاقتصاد الأمريكى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهى استخدام الدول الأخرى للدولار كعملة احتياطى، إذ مع تدهور قيمة الدولار لابد أن يضعف الحافز لاستخدامه كوسيلة للإدخار والتأمين ضد أخطار المستقبل.
هذا فى الاقتصاد. ولكننا نلاحظ ارتباكا مماثلا فى السياسة. الدخول إلى العراق اتضح انه كان ورطة لابد من محاولة الخروج منها. وأمريكا تكرر تهديدها لإيران بالضرب دون ان تضرب. وأخيرا رأينا تهديدها لسوريا ثم تغير رأيها، وفى أمريكا اللاتينية، التى كانت دائما تعتبر بمثابة «الفناء الخلفى» للولايات المتحدة، نرى تمردا على التبعية التقليدية فى فنزويلا وبوليفيا، وتقاربا بين هاتين الدولتين وبين البرازيل والأرجنتين ...إلخ. ونلاحظ أيضا تجرؤًا متزايدا من جانب الصين على إقامة علاقات مع بلاد كانت محظورة بسبب علاقاتها الخاصة بالولايات المتحدة، فى أمريكا اللاتينية وفى أفريقيا.
وسمعة الولايات المتحدة فى العالم كله تتدهور تدهورا ملحوظا، بعدما تمتعت به من شهرة كدولة مناصرة للحريات وللدول الفقيرة التى عانت طويلا من الاستعمار الأوروبى، إذ ظهر أكثر فأكثر زيف ادعاءاتها بالانتصار للديمقراطية، وانها فى أهدافها وأساليبها لا تختلف عن أى دولة استعمارية قديمة أو جديدة. بل لقد قرأت مؤخرا عن المتاعب الاقتصادية التى تصادفها بعض السلع الأمريكية الشهيرة، التى تمتعت لفترة طويلة باختصار ملحوظ فى أسواق العالم، بسبب تدهور سمعة أمريكا السياسية.
لابد أن لهذا كله علاقة بانخفاض نسبة مؤيدى السياسة الخارجية الأمريكية فى داخل الولايات المتحدة نفسها، وانخفاض نسبة الأمريكيين الذين يتعاطفون مع طعامهم، بل وانخفاض نسبة المشتركين أصلا فى التصويت فى الانتخابات.
●●●
هذه هى أعراض المرض أو بعضها. والمراقب لما يحدث له العذر إذا استنتج ان من الممكن جدا أن تكون أخطاء الولايات المتحدة فى السياسة الخارجية، مع العنف الظاهر فى تعاملها مع ما يثور فى العالم من مشكلات، قد تكون نتيجة مباشرة لهذا الضعف. وقد يكون لنا العذر إذا لاحظنا بعض الشبه بين موقف أمريكا فى العراق، وطريقة تعاملها مع العراق وأفغانستان وإيران وسوريا، عن عنف زائد فى الضرب أو غلظة زائدة فى اسلوب الخطاب، وبين موقف بريطانيا إزاء أزمة السويس فى 1956، فى أعقاب تأميم عبدالناصر لقناة السويس، واستخدام بريطانيا لهجة غير مبررة فى وصف ما فعله عبدالناصر، كتشبيهه بهتلر، ثم لجوئها إلى هجوم غير مبرر سرعان ما ندمت عليه ثم اضطرت إلى الانسحاب.
إلى أى مدى يمكن ان يلقى هذا كله ضوءا على ما يحدث الآن فى المنطقة العربية؟ ان هناك ارتباكا واضحا فى السياسة الأمريكية إزاء ما يحدث فى سويا وفى مصر على الأقل. بل ان كل ما حدث فى المنطقة العربية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، قد يكون أيضا وثيق الصلة بمحاولة من جانب الولايات المتحدة «لانقاذ ما يمكن انقاذه»، أو لمواجهة ظروف دولية جديدة تختلف تماما عما كانت عليه ظروف العالم عندما احتلت أمريكا مقعد رئاسة العالم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. سوف أحاول فى مقال تالٍ البحث عن إجابة على هذا اللغز.